يا أرض احكي لي، يا معالم وأطلال أنيري بصيرتي، ما الانسان؟ كيف عاش؟ ماهذا الجمال الذي خلفه نظيري الزمني؟ ما معاناته؟ كيف فكر؟ ما هي مخاوفه وآمله؟هل أنا محظوظة في زماني أم إن من عاش عليك قبلي كان الأوفر حظا؟ يا أرض سأستمع لصوتك، سأستخدم كل حواسي وروحي لأدرك فلا تبخلي علي ولاقيني بمنتصف الطريق واسردي لي قصصهم ، وافيني بعبرهم، فكما يقولون حياة واحدة لا تكفي، وهم وإن لم ألتقي بهم، أحن لمن كان قبلي، لربما كان ذلك فطرة أو وفاء أو حاجة أو رغبة ، لا أدري، لكني هنا لأسمع ، فيا أرض احكي لي ، يا معالم وأطلال أنيري بصيرتي .
جزيرة ديلوس
تعتبر جزيرة ديلوس أحد مواقع التراث العالمية، والمحمية بموجب اتفاقية حماية التراث العالمي التابعة لليونيسكو، أي أنها إرث حضاري بشري، نشترك فيه جميعا. وتقع الجزيرة على بعد 4 كيلومترات من جزيرة ميكانوس، وتستغرق رحلة الذهاب والعودة من ميكانوس لديلوس بواسطة العبارة حوالي الساعة.
حظيت بزيارتها في تاريخ 25-5-2015 ، وشعرت حينها وكأني في حلم أو إني نجحت في الهروب من الواقع وانتهيت في حقبة تاريخة.
ديلوس و أبولو و أرتميس : الأسطورة
تقول الأسطورة أن زيوس - أب الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية- والمعروف بمغامراته الغرامية وقع في حب ليتو - من عرق الجبابرة- وكانت نتيجة العلاقة أن ليتو حملت بتوأم! لكن زيوس في هذه الفترة تزوج هيرا وحين علمت بحمل ليتو غضبت وشعرت بالخيانة، ولعنت ليتو كي لا تتمكن من الولادة على أي يابسة على وجه الأرض ! وهكذا جابت ليتو الأرض، وعندما أضناها المخاض لم يساعدها الناس، وطردوها من أراضيهم خوفا من غضب هيرا، عندها حن زيوس عليها وطلب من أخيه بوسيدن أن يزيل الماء عن قطعة من الأرض كانت تطفو على سطح الماء، ليلتف حول لعنة حيرا، لأن ديلوس لم تكن أرضا بالمعنى التقليدي، وهكذا وجدت جزيرة ديلوس، وعليها ولدت ليتو طفليها : أبولو - إله الشمس والغناء و الشعر- وأرتميس- إلهة القمر والصيد والحيوانات البرية والعذرية- وبينما تم نقل آرتميس عند ولادتها لجزيرة أخرى، كرست ديلوس لأبولو، وأصبح الإله الحامي للجزيرة، ونقل الناس كل جثث موتاهم لجزيرة قريبة، و أصبحوا لا يدفنون أي ميت فيها لإرتباط الظلام بالموت بينما أبولو مرتبط بالنور، كذلك وتكريما لمولده يتم نقل النساء الحوامل أيضا إلى جزيرة مجاورة لتتم الولادة فيها، ليكون أبولو الطفل الوحيد الذي عرفته الجزيرة.
|
مرفق رقم 1 ولادة أبولو وأرتميس على جزيرة ديلوس |
الأرض والحياة
بعد زيارة عدد من البيوت، والتجول في طرقات المدينة القديمة، أدركت أن الناس الذين عاشوا فيها لا يختلفون كثيرا عنا، ومن خلال التفاصيل يمكنك رؤية العقل والجنون، المرأة والرجل، العمل ، التجارة، الدين، اللهو...إلخ ومن خلال النقاط التالية يمكن رسم صورة حية للمدينة في ذلك الوقت:
- الطرق ونظام الصرف الصحي : كانت الطرق صغيرة المساحة وتمر من خلال البيوت والمحلات، وذلك لحماية السكان من الرياح، كما كانت هندسة الطرق من أعلى إلى أسفل وذلك بسبب نظام الصرف الصحي المبني تحتها ليتم التخلص منه بسهولة.
- المنازل: كحال منازل اليوم، هنالك المتواضع، وهنالك الفخم ، فإن كان صاحب المنزل غنيا تجد بأن الأبواب مصنوعة من الرخام، ومزينة بتماثيل وفنون الفسيفساء مثل المنزل المبين في الصورة - مرفق رقم 2- إذ تعد هذه اللوحة من الفسيفساء التي تزين أرضية هذا المنزل إشارة على أن صاحب المنزل كان ذو شأن في تلك الحقبة، ويعد هذا المنزل معلما في الجزيرة معروف باسم (بيت الدلافين).
|
مرفق رقم 2 : منزل الدلافين |
كذلك من علامات كون الشخص غنيا هو وجود تمثال عند الباب أو في وسط المنزل بحيث مجرد فتح الباب يكون مرئيا للمارة، مثل منزل السيدة كيلوباترا - مرفق رقم 3- وهي بالطبع ليست كيلوباترا الشهيرة، لكن ديلوس كانت تعد من المناطق التجارية الشهيرة وبالتالي أصبح هنالك تبادل للثقافات، واستقرت بعض الجاليات في ديلوس: ومن مؤشرات الانفتاح الثقافي لديلوس نجد إلى جانب المعابد المخصصة لأبولو يوجد معبد لإلهة مصرية وهو معبد إيزيس - مرفق رقم 4- .
|
مرفق رقم 3 منزل السيدة كيلوباترا |
|
مرفق رقم 4 معبد إيزيس |
- التسلية: من الأمور التي جعلتني أدرك إلى أي حد نحن متشابهون، وأضحكتني الصدمة، هي أن بعض منازل الأغنياء تحتوي غرفة مخصصة لجلسات الرجال فقط - غير مسموح للسيدات لكن مسموح للخادمات والراقصات - ويشربون فيها الخمر المخلوط بالماء! - مرفق رقم 5 طبعا الغرفة تشبه "الديوانية" في ثقافتنا مع التحفظ على الفعاليات. كذلك عرجنا على المسرح الذي بني عام 300 قبل الميلاد وكان يسع 5500 متفرج -مرفق 6 -، إذ كان ضحما جدا ما أجبرني على احترام عمال ومهندسي تلك الحقبة -طبعا العمال كانوا رقيق- ونجد أن في المسرح أيضا هنالك أماكن مخصصة لعلية القوم -مرفق رقم 7 - . كذلك يوجد على الجزيرة مضمار لألعاب القوة والسباقات مخصص للرجال فقط !
|
مرفق 5 : "ديوانية" في أحد البيوت الغنية |
|
مرفق رقم 6: المسرح |
|
مرفق رقم 7 : مقاعد علية القوم |
- التجارة والحرف: كما سبق وأن ذكرت فإن ديلوس كانت تعد مركزا تجاريا، وذلك جعلها عامرة بجميع أنواع المهن، وقد زرت محلات العطارة واللحام والسماك، وقالت لنا المرشدة السياحية أن نمعن النظر في طاولة السماك، إذ كانت تحتوي على مجرى على شكل منحدر يؤدي إلى فتحة، وذلك لتسهيل التخلص من الماء والدم مرفق رقم -8- كما كان واضحا عليها أثر السكين. أيضا ممرنا بساحات للتبادل التجاري " السوق" وكان اسمها أغورا Agora .
|
مرفق رقم 8 : طاولة السماك |
معبد أبولو والأسود الفينيقية: في الطريق إلى معبد أبولو كانت هنالك قواعد رخامية و أشارت المرشدة إلى أن هذه القواعد كانت تحمل تماثيل لآلهة وعلية القوم، بعض منها كان من ذهب والآخر من معدن - حسب المكانة- وقد سرقت جميعا من قبل القراصة، وبعد الممر نصل لقاعدة ضخمة المفترض لتمثال ضخم للإله أبولو - مرفق 8 - لكنه أيضا تمت سرقته من قبل القراصنة، وفي النهاية وصلنا للمعبد الذي لم يبق منه سوى أطلال. أما المعلم الأكثر شهرة في الجزيرة هي " أسود ديلوس" أو الأسود الفينيقية -مرفق رقم 9- وكانت مهداة للإله أبولو.
|
مرفق رقم 8 : قاعدة تمثال أبولو |
|
مرفق رقم 9 : الأسود الفينيقية |
كما هو واضح فإن الناس هم الناس، والفرق بيننا ليس بكبير، فإلى جانب ما ذكرت نجد على الجزيرة وما بين البيوت بعض العلامات والإشارات التي يستخدمها السكان للحماية من العيون الشريرة، وهو شيء لايزال الانسان يؤمن به، ويرتدي أشياء يعتقد أنها تقيه من العين.
أخيرا أذكر أن الجزيرة غير مأهولة تماما، ولا يوجد عليها سوى الآثار ومتحف وقوات اليونيسكو، وعدد كبير من السحالي الصغيرة والبعوض وقد أتى أصحاب الجزيرة بالسحالي للقضاء على البعوض لكن يبدو أن السحالي فشلت في مهمتها، لذلك أنصح كل من يخطط للزيارة أن يردتدي ملابس تغطي كامل جسده وتحمي وجهه.
|
صورة تجمعي بأسود ديلوس |
هناك تعليقان (2):
مقالة جيدة
شكرا جزيلا لك
أشكرك على هذا الطرح المميز..بالتوفيق ان شاء الله
إرسال تعليق