الجمعة، 25 ديسمبر 2015

زيارتي لقصر فيرساي


ماهذا الذي أراه؟ حقيقة أم خيال ؟! كيف صمموه؟ وبالإتقان الدقيق صنعوه؟ إن زخم الفن والمعمار في هذا المكان يرتقي لأن يكون قاتلا! وماهذا الذي أسمعه ؟ قصة سادس عشر؟ شابة مدللة صغيرة السن مرحة،تحب صخب الحياة، وشاب خجول ممتلئ القوام ، اعتلى عرشا أكبر منه! موسيقى قاعة المرايا، تتلاحم مع صراخ الثوار عند الأبواب، مشاعل النار تترائى من النوافذ، سكبت الدماء، تحولت لشلالات، رسمت القطيعة بعد الرقم السادس عشر. أذني تردد ما قالته عيني: إن زخم الفن والمعمار في هذا المكان يرتقي لأن يكون قاتلا .....  

شاتو دي فيرساي 

يعتبر أشهر القصور في فرنسا، كيف لا وقد حمل ما بين جدرانه لويس السادس عشر آخر ملوكها؟ والملكة ذائعة الصيت، المدللة ماري أنطوانيت؟ وشهد ثورة الشعب وإسقاط الملك ؟ فهو ليس معلم مادي فقط بل رمز يختصر تاريخ، ويختزل عبر ودروس إنسانية عميقة! بالرغم من أنه بني ليكون منزل للصيد في الأساس للملك لويس الثالث عشر، إلا أنه مر بسلسلة من التغيرات والتوسعة وإعادة البناء في عهد كل من لويس الثالث عشر و لويس الرابع عشر، وانتهى ليكون تحفة فنية في عهد لويس السادس عشر، إلى أن استخدمه الشعب كرمز للفساد. 

زيارتي للقصر 

من زار القصر يعلم بأنه ضخم جدا، وقد يستغرق الأمر يومين أو أكثر لرؤيته كاملا مع الاستماع للملفات الصوتية التعليمية الخاصة به! لذلك سأتناول منه ما علق في ذاكرتي، والذي أعتقد بأنه أهم المعالم في القصر، لكن قبل ذلك أذكر بأن القصر يقع خارج  مدينة باريس، وبما ان الفندق الذي نزلت فيه كان في باريس، استقليت القطار لفيرساي، وقد استغرقت رحلة الذهاب والعودة ساعتين تقريبا.

البداية!

منذ اللحظة الأولى التي وطأت فيها محطة القطار في فيرساي، تم إعلامي عن طريق مرشد من القصر بأن كل المتجهين للقصر عليهم أن يقفوا في نقطة معينة ليتم اقتيادهم للقصر، وفعلا ما أن أصبحنا مجموعة بدأ المرشد بالسير ونحن وراءه،إلى أن وصلنا للباحة المقابلة للقصر، وحينها أعتقد بأني رأيت أطول طابور من البشر في حياتي! لكن لحسن الحظ كانت العملية شديدة الترتيب ولم يستغرق الأمر نصف الوقت الذي تخيلته حتى أصبحت إلى جانب بوابة القصر الذهبية !

مرفق 1 : بوابة القصر الذهبة 


سأتجاوز الساحة  المفتوحة في قلب القصر إلى أول الغرف من القصر والتي كانت مخصصة لاستقبال ضيوف الملك ، ثم الغرفة المخصصة لاستقبال ضيوف الملكة، فكما هو موضح في المرفقين 2 و 3، فإن الغرفة مليئة بالتفاصيل، والألوان، لكن هذا لا يقارن بالغرف التالية، فمن المعروف بأن الغرف في فيرساي تصبح أكثر إبهارا كلما توغلت فيه، وذلك تجنبا لإثارة الزائرين، وإيقاظ مشاعر الحقد على الحياة الرغيدة التي كان يعيشها الملك، لكن هذا الاجراء لم ينجح  بحمايته في النهاية

المرفق 2 : غرفة استقبال الملك

المرفق 2 : غرفة استقبال الملكة


ومن المعروف عن لويس السادس عشر أنه كان يحب القراءة، لذلك خصص لنفسه غرفة جعل منها مكتبة خاصة، إذ احتوت على خزائن فيها كتب التاريخ والفلسفة واللاهوت، والتي كان يهتم بقراءتها. مرفق رقم 3 


مرفق رقم 3 : مكتبة الملك

الابهار يتعاظم : الكنيسة قاعة المرايا إلى حديقة القصر

للأسف فإن الكنيسة المخصصة للصلاة في القصر كانت مغلقة، ولكنني تمكنت من تصوير الممر الطويل الذي ينتهي إلى المذبح الذهبي، وكانت الأرضية والعواميد والسقف المغطى بالرسوم والذهب، عبارة عن تحفة فنية ! مرفق رقم 4

مرفق رقم 4 : الكنيسة داخل القصر


بعد أن تجتاز عدد من الغرف و الممرات والأبهية، وتصعد السلالم، تصل لأجمل قاعة في القصر، ولأشهرها على الإطلاق وهي : قاعة المرايا، فماري أنطوانيت كانت تحب اقامة الحفلات الراقصة ، وهكذا شهدت جدران الغرفة المصنوعة من مرايا كم كبير من الاحتفالات، وحسبي أن توليفة المرايا مع الثرايا المنخفضة نسبيا، إلى السقف المغطى بالرسوم، والديكورات، تجعل القاعة المكان الأمثل لمن أراد الاحتفال والحياة الصاخبة! مرفق 5، 6، 7.
 
مرفق 5 : سقف قاعة المرايا


مرفق رقم 6 : قاعة المرايا

مرفق رقم 7 : قاعة المرايا


 وفي ظهر القاعة هنالك غرفة بحجمها، ثم غرفتي الملك والملكة ! فبالرغم من أنهما زوج وزوجة لكن العادات والتقاليد السائدة بين العائلات الأروستقراطية والملكية تخصص غرفة للملك وأخرى للملكة، ولا يجتمعان إلا بدعوة! مرفق 8، 9، 10، 11


مرفق رقم 8: غرفة الملك


مرفق رقم 9: غرفة الملكة

مرفق رقم 10: تسريحة الملكة

مرفق رقم 11 : سقف غرفة الملكة 

أيضا من الأمور الطريفة بغرابتها، أن أبناء الملك والملكة لا يجلسون إلى نفس الطاولة التي يجلس عليها الملكين أثناء تناول وجبات الطعام اليومية، بل على طاولة مقابلة لهما، وبالرغم من أن طاولة الأبناء لم تكن موجودة عند زيارتي لخضوعها للصيانة، ظل المشهد مضحكا بالنسبة لي ! 

مرفق رقم 12: طاولة طعام الملك والملكة

مرفق رقم 13 : حيث يجلس الأبناء لتناول الطعام

أما عن القسم الأكثر ابهارا بالنسبة لي، فقد كان بلا شك حديقة القصر، ربما لأنني ابنة الصحراء؟ فبالرغم من أن السماء كانت ملبدة بالغيوم لكن ذلك لم يمنع الحديقة من أن تشع جمالا، وهي تمتد على مساحة 800 هكتار، وأكثر ما أعجبني في الحديقة هي"بحيرة التنين" مرفق رقم 15، والتي تمثل مشهدا من المثولوجيا الإغريقية، وتحديدا أسطورة أبولو مع الثعبان بايثون ، وتحيط بها نوافير ترتفع المياه منها سبعة وعشرين مترا في الهواء.

مرفق رقم 14: حديقة القصر

 مرفق رقم 25: بركة التنين 


مرفق رقم 26 بركة التنين 

من سوء حظي أني لم أتمكن من زيارة كوخ ماري أنطوانيت، وهو المكان الذي أحبته ماري، وأمضت فيه معظم وقتها بعيدا عن القصر، ويقال بأنه المكان الذي شهد خيانتها للملك، قبل أن يتمكن لويس السادس عشر من اجراء عملية سمحت له بالانجاب. وبالمناسبة تشير بعض المصادر إلى أن الجملة الشهيرة "إذا لا يملكون خبزا، فليتناولوا البسكويت" والتي تنسب لماري قبيل قيام الثورة لم تقلها حقا، إنما كانت نوع من أنواع البروبغاندا للجرائد الصفراء المنشرة كثيرا آنذلك، فماري ولويس السادس عشر لم يكونا أشرارا، ولكنهما لم يكونا جديرين بالحكم أيضا، وقد استغلت الزمرة التي لم تكن تستفيد من وجودهما -من العائلات المهمة والكتاب- ذلك، وفي النهاية استمرت كرة الثلج بالتدحرج إلى أن ثار غضب الشعب الفقير ونفذ صبره! 

أخيرا أرفق مجسما مصغر للقصر، وبعض معالم الجمال من لوحات وديكورات، وبالطبع صورة "سيلفي" في الغرفة التي تقع خلف قاعة المرايا، حيث الأسرار الحقيقية واللقاءات المهمة :) 

مرفق رقم 27 : مجسم القصر


مرفق 28: أحد الأسقف في القصر

مرفق 29 : أحد الأبهية 

مرفق 30: لوحة لماري أنطوانيت وأبنائها 


سيلفي في الغرفة خلف قاعة المرايا 

الأحد، 13 ديسمبر 2015

مراجعة فئران أمي حصة






إني كلمات محظورة، إني كلمات ممنوعة، أغلق عينك، سأتسلل إلى فناء عقلك، سأضرم النار في روحك، إذا سمحت لي بالعبور من بوابة بصرك، سأفسد أخلاقك، وأسمم مسلماتك! لماذا لاتزال واقفا؟ تتحداني؟ تتحدى جبروتي؟ تجرؤ على أن تميط اللثام عني؟ هذا يعني واحدة من اثنين إما انك لا تدرك عواقب الأمور جيدا أو انك ترى في نفسك ندا كفئا ، حسنا، على أي حال لقد حذرتك، إني كلمات محظورة، أني كلمات ممنوعة، لنرى ما أنت ؟ 

رواية ممنوعة! 

كغيري من القراء في الكويت علمت بواسطة وسائل التواصل الإجتماعي بأن هنالك كاتب من الكويت، حائز على الجائزة العالمية للرواية العربية عن روايته الأولي " ساق البامبو" ، لكن الأمر لم يثر اهتمامي لقراءتها، لكن عندما تم منع روايته الثانية "فئران أمي حصة"، شعرت بأن هنالك من يقلل من قدرتي على تقدير الأمور، والقراءة النقدية، ومع استمرار حديث الناس عنها، وجدت نفسي مجبرة لأن أطلع عليها! لأني لا أقبل الرقابة على العقول، ولا أقبل أن يقال لي " أنت لا تعرفين مصلحتك، هذا مضر!" خصوصا على مستوى الكلمات! فأنا التي تقرر ما هو المضر، وأظنه حق مستحق بعد اتمام الإنسان لتعليمه الجامعي.

 الشكل

الرواية تدور أحداثها في الماضي والمستقبل، فالفصول مقسمة على نحو تجعل القارئ يتردد بين فترتين زمنيتين: يبدأ مع المستقبل، ويتناوله بطريقة سرد أحداث يوم - تشبه طريقة مسلسل 24 ، وفي الفصل الثاني يتناول الماضي، ثم يعود للمستقبل - حاضر الشخصية - وهكذا، ويقسم فصول الماضي لأربعة "فئران"، يرمز بواسطتها للمراحل والآفة التي توصله في النهاية لذلك اليوم في المستقبل، ومع  فصول "الفئران" نراه تارة يسرد بضمير المتكلم وتارة بضمير المخاطب.

الأحداث

لن أحرق الرواية، وسأختصر الأحداث الرئيسية بتفاعل مصير ثلاثة عوائل كويتية أثناء الغزو، والتغيير الذي أصاب طبيعة الحياة والمجتمع بعد الغزو خصوصا علاقاتنا بالمقيمين من دول الضد والعراق، ففي السابق كانت الجالية الفلسطينية كبيرة في الكويت، ويمكن لأبناء عائلة واحدة تسكن بيتا أن تشكل فريق كرة قدم لوحدها! وهذا الأمر اختفى بعد الغزو، كما تضررت العلاقات الكويتية-العراقية بشكل كبير، وأصبح العديد من الكويتين الذين تجمعهم علاقة نسب أو قرابه مع عراقيين ينكرونها، ويحاولون إخفاءها مثل مع حدث مع أحد الشخصيات العراقية التي أنجبت أبناء كويتيين، وبعد الغزو أصبح أحفادها ينسبون أصلها للاحساء! 
أيضا يتطرق الكاتب لقصة حب ما بين أبناء اثنين من العوائل المتجاورين سكنيا، ولكنهما ينتميان إلى طائفتين مختلفتين، ويجدان صعوبة في تتويج حبهما بالزواج بسبب هذا الاختلاف، ويبين الكاتب بأن في المستقبل ستكون الانقسمات أكثر خطورة وحدة إذا لم يتم ضرب ناقوس الخطر. 

التقرب بواسطة الذكريات لتمرير "الضربات"

هل أنت  كويتي من مواليد الثمانينات؟ هل كان أهلك من الصامدين في الداخل؟ إذا كانت اجابتك نعم على أحد هذه الأسئلة فعلى الأرجح سينتزع الكاتب منك دمعة، لا لشيء سوا لإثارته للذكريات الخاصة جدا، مثل الزر الذي رسمه أبناء جيلي على طاولات الدراسة، وكنا نكتب تحتها " اضغط هنا، يختفي المدرس"، ورائحة جدتك وملفعها وطريقة كلامها، وشكل السماء عندما أصبحت سوداء قبيل التحرير، فهذه الأمور انصهرت فينا كأطفال، وأي شخص يستدعيها من الماضي، يجعلنا نصغي، أي أن الرواية تعتمد بشكل كبير على مخزون الذكريات لدى المتلقي، والحس المشترك بالخصوصية، وعندما تكون في ذلك الوضع يمرر الكاتب رسائل يدق من خلالها "ناقوس الخطر" لأنه يعتقد بأن أوانه قد حان، وقد صرح الكاتب على لسان الشخصية الرئيسية بأن هذا التكتيك الذي سيتبعه لمحاربة " الفئران" ، ويقصد بالفئران الأسباب المستترة/الأمراض الدفينة والتي نرفض الاعتراف بها، والتي ستكون السبب في سلبنا الأمان في المستقبل.

من أنا؟ 

كيف وجدت الرواية؟ بما أني من جيل الثمانينات ومن الصامدين في الكويت فقد أبكتني في مواضع معينة، لأنها تحدثت إلي بلغة طفولتي، لكن هل الرواية من الناحية الفنية والثراء المعرفي والعمق  قادرة على شد القارئ؟ هل العطر والأحداث الدرامية كانت كافية وتشفع للرواية في النواح الأخرى؟ هل الرسالة التي أثارتها تم معالجتها بعمق أو سطحية؟ هل أسلوب "دس السم بالعسل" تم بدقة وسلاسة ووفق رؤية واضحة؟ أم متخبطة بهدف الاثارة ؟ أخشى بأني أميل للإجابة السلبية على الأسئلة السابقة، لكني أقدر الجهد، وأعتقد بأن هنالك مجال لدى الكاتب لأن يجعل القادم أفضل، متمنية له التوفيق ، والحرية للكلمة دائما. 

الخميس، 3 ديسمبر 2015

تلخيص كتاب حرية الإنسان في الإسلام

الأصل ما استتر، الأصل كامن في الصميم، قبل أن يشكل الجسد، الأصل "من علم ربي"، لذلك فنحن نبصر ونسمع وبالفؤاد نكتشف العالم ، ومن احتكر التفسير، وكرس الفهم القديم، وأشاع بأنه الأصل، لهو يكرس الجهل والهوان، في العصر الحالي ويهدد الأمان، فالأصل ما استتر، الأصل كامن في الصميم، قبل أن يشكل الجسد، الأصل "من علم ربي"..
التلخيص  

ما أوردته في التقديم ربما يعد تلخيصا مركزا لما يقدمه الكتاب، ألا وهو: وجهة نظر مختلفة وقراءة جديدة للإسلام، تنطلق من رفض لاحتكار نخبة تاريخية لحق التأويل والتفسير، وبكلمة أخرى هو : تعبير عن إرادة حرة، واحترام للذات، فلو أن الأقدمون قد اجتهدوا وبواسطة روحهم فسروا وأدركوا، فإن ذلك لا يسلب الذين أتوا من بعدهم من نفس الحق،  وفي هذا الإطار يسطر المفكر والباحث محمد أبو القاسم حاج حمد111 صفحة، مقسمة لأربعة فصول تحمل العناوين الآتية : 

1- مقومات الحرية.
2-التكوين الطبقي وعلاقته بالحرية وإشكاليات التنظيمات الإسلامية.
3-القطيعة المعرفية مع الأيدولوجيا.
4-العبودية لله.


المفكر محمد أبو القاسم حاج حمد 

أود أن أشير إلى أن بعض الصفحات تحتاج إلى إعادة القراءة أكثر من مرة، وإن لم تكن تملك خلفية في السياسة والاقتصاد و الثقافة الإسلامية، فقد تحتاج للاستعانة بمحرك البحث قوقل لتتمكن من تتبع الأفكار الواردة في الكتاب. 


الدستور وعلاقة المسلم بغير المسلم
 يعيد محمد أبو القاسم  قراءة التراث الإسلامي ليخلص لنتيجة مفادها أن تراث تطبيق النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الإسلامي هو ما يجعل الإنسان المسلم الحالي مجبر على إيجاد حلول توفيقية للواقع خالية من العمق والمعنى، وسهلة الانكسار عند أول امتحان لها، بينما ما نحتاجه هو تغير التصور الذي نستخدمه  a shift in our perspective ، مثل : اعتبار القرآن الكريم كتاب مهيمن وكلي وليس كتاب تشريع أو دستور! فإن كان هنالك دستور في الإسلام فهو وصايا جبل عرفات -حجة الوداع-: لأنها تخاطب جميع الناس جميعا، وتحمل المقومات اللازمة لاعتبارها دستور في أمة متعددة الأجناس والخلفيات، بينما القرآن هو كتاب أكبر وأعم وأشمل، ووصفه بالدستور يعد كوصف الكل بأنه جزء.  
كذلك يعتبر محمد أن الحدود فيها حدود عليا ودنيا، وفي أمة متعددة فإن وصايا جبل عرفة تصلح لأن تكون الحدود الدنيا،  ويرى أن المسافة ما بين الحدود الدنيا والعليا مفتوح للفقه والاجتهاد، وعليه يرجع محمد إلى القرآن ليبحث عن الحدود الدنيا التي تتناسب مع الدستور، ويؤكد على أن القرآن قد جاء لينسخ الكتب السماوية السابقة نحو التخفيف ، وعليه فإن اتباع نفس النسق هو الأساس في النظام والتعامل الإسلامي، وتحت هذا الإطار يربط محمد أبو القاسم العداوة بين المسلمين وغير المسلمين بثلاثة شروط  مبنية على قراءته لسورة الممتحنة 7-8 :

1- أن يقاتلونا في ديننا.
2- أن يخرجونا من ديارنا.
3-أن يؤيدوا من يخرجنا.

السمع، البصر، الفؤاد، الروح : مفاتيح الحرية في الإسلام

((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ )) صدق الله العظيم

ينطلق محمد من هذه الآية ليبين الآلية التي من خلالها جعل الله الإنسان حرا، فالإنسان حر لأنه مكرم بالسمع وليس بالأذن، بالبصر وليس بالعيون، بالقلوب وليس بمضخات للدماء! كما أن للإنسان بعد رابع بالاضافة إلى النفس، البدن، والحواس، وهي الروح ، التي هي مكنونة في الإنسان لكنها لا تنتمي إلى هذا العالم، أي أنه هذا التصور يجعل حرية الإنسان نابعة من داخله، وداخله مرتبط "بعلم ربي"، وعليه فإن على الإنسان أن يوظف كل حواسه وبدنه - قلبه ، بصره، سمعه- ليكون حرا ويحلق في فضاء هذا العالم، ويستخدم البعد الرابع المكنون ليهذب نفسه الأمارة بالسوء.

 إذا الحرية في الإسلام لا تنبع من علاقته بالآخر كما هي الحرية في المجتمعات الغربية بل تنبع من علاقة الإنسان بنفسه، بالإردة وحس المسؤولية التي منحها الله له، وهو ما يؤكده الفصل الثاني من الكتاب إذ يشرح المفكر بأن النظام في الغرب هو " وليد الواقع عبر سلسلة من عمليات الانعكاس الجدلي من أسفل إلى أعلى، أو من القاعدة إلى المنظومة الفكرية التي تجسد طبيعة النظام. هذه السلسلة الجدلية تصبح معكوسة تماما حين نأخذ بمفهوم الحرية الروحية الإسلامية ..." ص61 فالإرادة الإنسانية تعلو على المشيئة الطبيعية جدليا وماديا، والإنسان بموجب الروح يمتلك حق قراءة الكتاب الكوني بروح ابداعية تخوله أن يكون حرا، وما يحدد مداها هي "أخلاق الروح".

 كما يؤكد الكاتب على أن لا يوجد تنظيمات سياسية باسم الاسلام ، بل هنالك أمة مختارة، مهمتها محددة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال " النفر القدوة". 


توق إلى العالم الذي أنزلنا منه وليست إكراها


أما وجهة نظره الخاصة بعبودية الله وكيف تتعارض فكرة "الحرية" مع مفهوم العبودية،  فيرى المفكر أننا نحتاج لقطيعة مع الإحاطة المفهومية للأيدلوجية التاريخة التي تصور علاقة العبودية في إطار (حاكم- الله) و (عبيد-البشر)، ويورد علاجه للنقطة حسب الآتي  وهو: أن سيدنا آدم عندما كان في الجنة - المستوى الروحي- لم يكن يعبد الله بحواسه ونفسه بل بروحه، لكن عندما أنزله الله إلى الأرض نزلت أيضا مستوى العبادة وأصبحت على مستوى الحواس، ولأن الله زود بني آدم بوسائل الإدراك فإن عبادة الله لا تعود إجبارا بل طواعية وادراكا بأن جانبنا الروحي يتوق الى العالم الذي ينتمي اليه، فتصبح العبادات كالأجنحة التي ترسل العبد في ملكوت الله، وهو فهم مغاير تماما لعلاقة العبد بالحاكم أو بالسيد.

 تعقيب 

كما هو واضح فإن ما يورده الكتاب في صفحاته القليلة يتجاوز من حيث الثراء ما تقدمه مجلدات ضخمة، ويمكن القول بأن التصورات والأفكار التي يطرحها قريبة من التصوف - وبشكل أقل التفكير الطوبائي-، لكنها تطرح حلولا مقبولة للعراقيل التي تصادف الإنسان المسلم المعاصر، فالحرية المسؤولة والمنوطة بالروح والحس الإدراكي تبدو أكثر مناسبة للإنسان بالمقارنة مع الحرية الوضعية ، لكن يبقى التطبيق هو المحك.

كذلك أذكر بأن الكتاب يحمل سمة ما يتبناه، أي أنه يترك المجال للتفكير، - لربما كان عن قصد أو غير قصد-  فعلى سبيل المثال يذكر المفكر أن أبعاد الروح هي التي تحدد علاقاتنا ببعض، ونستمدها من التفاعل ما بين وسائل إدراكنا وديننا الحنيف، ويتناول الرابطة العائلية ضمن هذه الرؤية في آخر نقطة من الفصل الأول، ويورد شرحا معتمدا على الآيات القرآنية لبيان أهمية الأسرة والعلاقات المنظمة لها ، لكنه لم يذكر تعدد الزوجات وهي نقطة مهمة ،  من الصعب إغفالها خصوصا ضمن قراءة كالتي يطرحها.

أخيرا أذكر بأن هنالك أفكارا جريئة يطرحها الكاتب لم أتناولها بالتلخيص، إذ ركزت على أهم الأفكار المطروحة من وجهة نظري، لكن الكتاب زاخر بالآيات القرآنية والتأويلات، وإن كان يعاني شحا في المراجع. 


الجمعة، 27 نوفمبر 2015

جزيرة ديلوس

يا أرض احكي لي، يا معالم وأطلال أنيري بصيرتي، ما الانسان؟ كيف عاش؟  ماهذا الجمال الذي خلفه نظيري الزمني؟ ما معاناته؟ كيف فكر؟ ما هي مخاوفه وآمله؟هل أنا محظوظة في زماني أم إن من عاش عليك قبلي كان الأوفر حظا؟ يا أرض سأستمع لصوتك، سأستخدم كل حواسي وروحي لأدرك فلا تبخلي علي ولاقيني بمنتصف الطريق واسردي لي قصصهم ، وافيني بعبرهم، فكما يقولون حياة واحدة لا تكفي، وهم وإن لم ألتقي بهم، أحن لمن كان قبلي، لربما كان ذلك فطرة أو وفاء أو حاجة أو رغبة ، لا أدري، لكني هنا لأسمع ، فيا أرض احكي لي ، يا معالم وأطلال أنيري بصيرتي .

جزيرة ديلوس

تعتبر جزيرة ديلوس أحد مواقع التراث العالمية، والمحمية بموجب اتفاقية حماية التراث العالمي التابعة لليونيسكو، أي أنها إرث حضاري بشري، نشترك فيه جميعا. وتقع الجزيرة على بعد 4 كيلومترات من جزيرة ميكانوس، وتستغرق رحلة الذهاب والعودة من ميكانوس لديلوس بواسطة العبارة حوالي الساعة.
حظيت بزيارتها في تاريخ 25-5-2015 ، وشعرت حينها وكأني في حلم أو إني نجحت في الهروب من الواقع وانتهيت في حقبة تاريخة.

ديلوس و أبولو و أرتميس : الأسطورة


تقول الأسطورة أن زيوس - أب الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية- والمعروف بمغامراته الغرامية  وقع في حب ليتو - من عرق الجبابرة- وكانت نتيجة العلاقة أن ليتو حملت بتوأم! لكن زيوس في هذه الفترة تزوج هيرا  وحين علمت بحمل ليتو غضبت وشعرت بالخيانة، ولعنت ليتو كي لا تتمكن من الولادة على أي يابسة على وجه الأرض ! وهكذا جابت ليتو الأرض، وعندما أضناها المخاض لم يساعدها الناس، وطردوها من أراضيهم خوفا من غضب هيرا، عندها حن زيوس عليها وطلب من أخيه بوسيدن أن يزيل الماء عن قطعة من الأرض كانت تطفو على سطح الماء، ليلتف حول لعنة حيرا، لأن ديلوس لم تكن أرضا بالمعنى التقليدي، وهكذا وجدت جزيرة ديلوس، وعليها ولدت ليتو طفليها : أبولو - إله الشمس والغناء و الشعر- وأرتميس- إلهة القمر والصيد والحيوانات البرية والعذرية- وبينما تم نقل آرتميس عند ولادتها لجزيرة أخرى، كرست ديلوس لأبولو، وأصبح الإله الحامي للجزيرة، ونقل الناس كل جثث موتاهم لجزيرة قريبة، و أصبحوا لا يدفنون أي ميت فيها لإرتباط الظلام بالموت بينما أبولو مرتبط بالنور، كذلك وتكريما لمولده يتم نقل النساء الحوامل أيضا إلى جزيرة مجاورة لتتم الولادة فيها، ليكون أبولو الطفل الوحيد الذي عرفته الجزيرة. 

مرفق رقم 1 ولادة أبولو وأرتميس على جزيرة ديلوس

الأرض والحياة 

بعد زيارة عدد من البيوت، والتجول في طرقات المدينة القديمة، أدركت أن الناس الذين عاشوا فيها لا يختلفون كثيرا عنا، ومن خلال التفاصيل يمكنك رؤية العقل والجنون، المرأة والرجل، العمل ، التجارة، الدين، اللهو...إلخ ومن خلال النقاط التالية يمكن رسم صورة حية للمدينة في ذلك الوقت:

-  الطرق ونظام الصرف الصحي : كانت الطرق صغيرة المساحة وتمر من خلال البيوت والمحلات، وذلك لحماية السكان من الرياح، كما كانت هندسة الطرق من أعلى إلى أسفل وذلك بسبب نظام الصرف الصحي المبني تحتها ليتم التخلص منه بسهولة.

- المنازل: كحال منازل اليوم، هنالك المتواضع، وهنالك الفخم ، فإن كان صاحب المنزل غنيا تجد بأن الأبواب مصنوعة من الرخام، ومزينة بتماثيل وفنون الفسيفساء مثل المنزل المبين في الصورة - مرفق رقم 2- إذ تعد هذه اللوحة من الفسيفساء التي تزين أرضية هذا المنزل إشارة على أن صاحب المنزل كان ذو شأن في تلك الحقبة، ويعد هذا المنزل معلما في الجزيرة معروف باسم (بيت الدلافين). 

مرفق رقم 2 : منزل الدلافين


كذلك من علامات كون الشخص غنيا هو وجود تمثال عند الباب أو في وسط المنزل بحيث مجرد فتح الباب يكون مرئيا للمارة، مثل منزل السيدة كيلوباترا - مرفق رقم 3- وهي بالطبع ليست كيلوباترا الشهيرة، لكن ديلوس كانت تعد من المناطق التجارية الشهيرة وبالتالي أصبح هنالك تبادل للثقافات، واستقرت بعض الجاليات في ديلوس: ومن مؤشرات الانفتاح الثقافي لديلوس نجد إلى جانب المعابد المخصصة لأبولو يوجد معبد لإلهة مصرية  وهو معبد إيزيس - مرفق رقم 4- .

مرفق رقم 3 منزل السيدة كيلوباترا


مرفق رقم 4 معبد إيزيس


- التسلية: من الأمور التي جعلتني أدرك إلى أي حد نحن متشابهون، وأضحكتني الصدمة، هي أن بعض منازل الأغنياء تحتوي غرفة مخصصة لجلسات الرجال فقط - غير مسموح للسيدات لكن مسموح للخادمات والراقصات - ويشربون فيها الخمر المخلوط بالماء! - مرفق رقم 5 طبعا الغرفة تشبه "الديوانية" في ثقافتنا مع التحفظ على الفعاليات. كذلك عرجنا على المسرح الذي بني عام 300 قبل الميلاد وكان يسع 5500 متفرج -مرفق 6 -، إذ كان ضحما جدا ما أجبرني على احترام عمال ومهندسي تلك الحقبة -طبعا العمال كانوا رقيق-  ونجد أن في المسرح أيضا هنالك أماكن مخصصة لعلية القوم -مرفق رقم 7 - . كذلك يوجد على الجزيرة مضمار لألعاب القوة والسباقات مخصص للرجال فقط !


مرفق 5 : "ديوانية"  في أحد البيوت الغنية 

مرفق رقم 6: المسرح

مرفق رقم 7 : مقاعد علية القوم

-  التجارة والحرف: كما سبق وأن ذكرت فإن ديلوس كانت تعد مركزا تجاريا، وذلك جعلها عامرة بجميع أنواع المهن، وقد زرت محلات العطارة واللحام والسماك، وقالت لنا المرشدة السياحية أن نمعن النظر في طاولة السماك، إذ كانت تحتوي على  مجرى على شكل منحدر يؤدي إلى فتحة، وذلك لتسهيل التخلص من الماء والدم مرفق رقم -8- كما كان واضحا عليها أثر السكين. أيضا ممرنا بساحات للتبادل التجاري " السوق" وكان اسمها أغورا Agora .

مرفق رقم 8 : طاولة السماك


معبد أبولو والأسود الفينيقية:  في الطريق إلى معبد أبولو كانت هنالك قواعد رخامية و أشارت المرشدة إلى أن هذه القواعد كانت تحمل تماثيل لآلهة وعلية القوم، بعض منها كان من ذهب والآخر من معدن - حسب المكانة- وقد سرقت جميعا من قبل القراصة، وبعد الممر نصل لقاعدة ضخمة المفترض لتمثال ضخم للإله أبولو - مرفق 8 - لكنه أيضا تمت سرقته من قبل القراصنة، وفي النهاية وصلنا للمعبد الذي لم يبق منه سوى أطلال. أما المعلم الأكثر شهرة في الجزيرة هي " أسود ديلوس" أو الأسود الفينيقية -مرفق رقم 9- وكانت مهداة للإله أبولو. 

مرفق رقم 8 : قاعدة تمثال أبولو



مرفق رقم 9 : الأسود الفينيقية


كما هو واضح فإن الناس هم الناس، والفرق بيننا ليس بكبير، فإلى جانب ما ذكرت نجد على الجزيرة وما بين البيوت بعض العلامات والإشارات التي يستخدمها السكان للحماية من العيون الشريرة، وهو شيء لايزال الانسان يؤمن به، ويرتدي أشياء يعتقد أنها تقيه من العين. 
أخيرا أذكر أن الجزيرة غير مأهولة تماما، ولا يوجد عليها سوى الآثار ومتحف وقوات اليونيسكو، وعدد كبير من السحالي الصغيرة والبعوض وقد أتى أصحاب الجزيرة بالسحالي للقضاء على البعوض لكن يبدو أن السحالي فشلت في مهمتها، لذلك أنصح كل من يخطط للزيارة أن يردتدي ملابس تغطي كامل جسده وتحمي وجهه.

صورة تجمعي بأسود ديلوس



الأربعاء، 25 نوفمبر 2015

كوخ العم توم - رواية




أنا الأفضل أنا الأكمل أنا المفضل عند الله ، والدليل : ميلادي! لماذا أنت مستغرب؟ علمك، قوتك، أخلاقك، جمالك، مساعدتك للبشرية... !!! لا تساوي شيء أمام حسبي ونسبي وعرقي وبشرتي! باسمهما أخضعت العالم لقرون، فأجلدهم وأقول هذا حقي، أحرقهم وأقول هذا حقي، أبيع وأشتري فيهم، وأربطهم كالدواب وأفصل الأبناء عن أمهم لأنه حقي حقي حقي!!!! ومستعد للدفاع عن حقي ومن يمسه سأثور بوجهه ! بالطبع لن أخجل!! ماذا تقول؟ ولماذا أخجل؟! أنا لا أفهم! لماذا تريد أن تجردني من حقي ؟! آه يا أحمق ثم آه... للقدير سأشكو وأدعي: اللهم زل الغمامة عن أعينهم ليدركوا حقي الطبيعي  اللهم لا تجبرني على قتالهم! ليس ذنبي إن ولدوا أقل مني! آه إن قلبي يعتصر ألما ، إن دموعي تنحدر! آه ساعدهم يا إلهي ليدركوا، أنا الأفضل أنا الأكمل والدليل: ميلادي! 






 رواية الخزي الإنساني

يقال بأن مهمة الأدب الحقيقية هي أن يعكس صورة المجتمع بصدق لأفراده، بوضوح وبعمق، يرسل لنظامك العصبي رسالات تجبرك على مواجهة ذاتك المتخفية في ثنايا الروتين اليومي للحياة، ومن الأعمال التي أدت هذه الرسالة وخلدت كانت رواية "كوخ العم توم" للكاتبة هيرت ستو ، إذ أنها تغلغلت في المجتمع الأمريكي في أوج العبودية الأمريكية ، ويقال بأنها كانت سببا في اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية  ، لكن لا يمكن القطع في هذه المسائل حتى باستخدام مسوحات الرأي ، لأن أثر الكلمة غير قابل للقياس، وأحيانا حتى القارئ نفسه لا يدرك ذلك الأثر، ولربما كانت الكلمات تحرر شيء في داخل الإنسان أو توجد شيء لم يكن، لكن الأكيد أن لها قيمة وترجمات لا تحصى.

القلب والأمل
كأي رواية، لها أبطال: الرئيسي هو العم توم، لكن البطلين الحقيقين هما خيطان نسجت من خلالهما الرواية معروفان باسم : القلب والأمل، فضربة بعد الضربة يتلقاها العم توم، إلى أن يتحول قلبه إلى شظايا، لكن روحه لا تنفك تزوده بالبلسم ، بالأمل ، وهكذا غدت حياته ألم مزمن تعود عليه وأصبح جزء من هويته! هذه هي مأساة العم توم الحقيقية، مأساة قلب ينبض رغم الجروح، قلب أقوى من أن يهزمه نظام رق، ويأبى إلا أن يموت وهو يحتضن الألم، وكأنه ينتظر منه موقفا مشرفا على وفائه، هذا كان توم، وهذه هي قصته:

العم توم

 وجد توم في الزمان والمكان اللذان أجبراه على أن يصبح العم توم! فمصيره تحدد ببساطة بسبب لون بشرته ضمن النظام الذي أوجدته غفلة الضمير الإنساني ، ولم يتعود توم على أن يكون ملكا لأحد فحسب بل كان وفيا، وكان لا يدخر مجهودا في خدمة سيده وسيدته اللذان كانا - وبالمقارنة مع السواد الأعظم - من أفضل الأسياد! إلا أن النظام أقوى، والسيد الأبيض كان السيد الأبيض، فعندما حلت أزمة مالية على السيد شبلي - مالك توم- قرر أن يبيع الأخير بالرغم من تقدم سنه، والعشرة الطويلة، ومعارضة زوجته وابنه، خضع السيد شبلي لإغراء المال ، وباع توم ، وفطر قلب زوجة توم وزوجته وابنه الذي لحق بتوم وبصدق الطفوله المجروح وعده بأنه سيخلصه يوما ما من أسر العبودية ، ويهديه الأمل بقطعة نقود معدنية ليعلقها على صدره وتبدأ مع هذا الحدث الرحلة، وترى توم الأبي، قوي البنية، الوقور، يتحمل بصبر، ولا يتخلى عن إيمانه، بينما زوجته وبعد أن طرقت جميع الأبواب طلبت من سيدتها أن تسمح لها بأن تؤجرها لتعمل وتجمع ما يكفي لإعتاق رقبة زوجها، فهنا كد وعمل وهناك كد وعمل، ولأجل ماذا؟ لأجل أن يصبح سيد نفسه في عالم ينظر له على أنه ملكية خاصة.

زوجة توم تكوي له قميصه بعد تلقيهما نبأ بيعه 


الطفلة الشقراء والخيارات الأخرى في الحياة


وعلى السرير تنام الطفلة الشقراء التي كانت الشيء الوحيد الذي يهون على توم فاجعته، وتعرف السر في المشهد بعد أن تتعلق بها ، فإيفا كانت لها هالة ملائكية، و تجعلها الرواية رمزا للدين المسيحي، فلا يرتاح توم إلا عندما تكون معه، تقرأ له الكتاب المقدس وتعلمه، تسأل وتجاوب، وتحاور، لكن الروايه إن خطفت قلبك في موضع، تحرقه في موضع آخر! فلا سكينة لتوم ، ولا هدوء واستقرار، وإن رضي بالقليل فإن القليل يتسرب من بين أصابعه، لكنه لم يفقد الأمل ولم يفقد إيمانه، وظل مخلصا لما اعتقده حبا، ووفيا لما ظنه عملا،  وفي المقابل تضافر عليه العالم ، وأثر على ميزان الحب والوفاء في حياته، فمالت كفة على أخرى، وانتصر العطاء.

أما بالنسبة لبقية الشخصيات فنجد أن الرواية زاخرة بمختلف الخيارات، فمن الرقيق من فقد إيمانه بعد أن ذاق طعم الظلم والذل بكل نكهاته الأرضية، ونجد الأم التي رمت نفسها في التهلكة لإنقاذ فلذة كبدها ، وتطير من السعادة ظنا منها أنها وصلت إلى بر الأمان، و تجد من ثار وبالسلاح هرب واسترد حقه بالقوة، ولكل اختيار مسار، ولكل مسار ثمن، كما أن للحظ دور، وهي فكرة غير محببة لدى الإنسان لأن الحظ عشوائي بينما العدالة منظمه، لكنه عامل من عوامل الحياة، وفي الرواية.


إيفا - الطفلة الشقراء- وتوم




دعوة لقراءة العم توم 


مع العم توم لم أشأ أن أورد تفاصيل الرواية، لأني لا أريد أن أحرم أحدا من هذه التجربة، فإن عشت ضمن هذا العالم ستدرك أن الإنسانية شيء غريب! اليوم ننكر بعضا باسم العرق، غدا باسم الأيدلوجيا، والذي يليه باسم الدين، وهكذا ننتزع الصفة الآدمية من بعضنا البعض دائما باسم شيء ما، ودائما يكون هنالك تفسير مقبول ظاهريا لكن من يمعن التفكير أو حتى يتأمل يدرك أن باطنه مرض!  ولا جماعة معصومة أو محصنة ضد العنصرية، فإذا لم تكن في قلوبنا رحمة وفي عقولنا شيء من وعي، فلنقف  أمام التاريخ ليتجلى، لنرى ولنعش التجربة من خلال الأرواح والقصص التي عانت، لندرك الألم من خلالهم، لنتواضع أمامهم، لنعي بأن كلنا من آدم وآدم من تراب، وأن ظلم أخيك، لهو ظلم لنفسك.

نسخة رواية العم توم التي قرأتها ترجمة : ميخائيل حداد، مراجعة: ضياء قبيسي، الناشر: الأهلية للنشر والتوزيع . 




السبت، 21 نوفمبر 2015

تخليص الإبريز في تلخيص باريز







  نعالج أمراضنا وألامنا بالكي، ونبتر أصابعنا السليمة لنستبدلها بأصابع  بلاستيكية ملونة نشير  بها إلى بعضنا مقرونة بابتسامة صفراء أحيانا أو بنظرات البلهاء أحيانا، نراقب ألعاب خشبية في الأفق، ولا نعلم إن كانت حقيقة أم سراب، فتتجمع الدموع في المقل وتتجمد وتغدو غشاوة، ومع مرورالوقت نظن أن هذا هو شكل الحياة، هذه هي الصورة الحقيقية، وتخترق صفوفنا أصوات، خافته، بعضها فصيحة اللسان، عذبة البيان، وبعضها بلغة لا نفهمها، وكالقناديل تبحر بيننا، تلامس من تلامس، وتمضي، ونظل نحن من بعدها أما في حيرة أو برؤية مختلفة .

صوت قنديل من الماضي




من الأصوات القديمة التي حضرتني إزاء تفجيرات باريس كان الجيل الأول من المفكرين السياسيين المسلمين، وتحديدا الشيخ رفاعة رفعت الطهطاوي، كيف لا؟! وهو مؤلف (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)؟ فمن خلال معالجة كتابه نحصل على وجهة نظر تاريخة فيما يخص الإسلام وباريس، ومن جهة أخرى يعد هذا الكتاب من الإرث التاريخي الذي بدأت معه "صدمة الحضاره" ، والانقسام الداخلي في الوعي الإسلامي و العربي تجاه نفسه والآخر، وعليه يمكننا تتبع ذلك الجزء في أنفسنا، ونفهم كيفية تكوينه، وما الذي ظل مزروعا بالأنفس وما الذي اضمحل، ولماذا؟ 

قبل الرحلة لباريس 

ضمن سياسة محمد علي باشا لإحداث نهضة في مصر، بعث إلى شيخ الأزهر حسن العطار ليرشح له اسما للابتعاث لفرنسا ليعمل كإمام وواعظ لدفعة قوامها 34 طالب، وجاء جواب العطار بترشيحه رفاعه الطهطاوي لما كان يتمتع به من علم واجتهاد، وقد أوصى العطار الأخير بأن يدون كل شيء في رحلته هذه غير المسبوقة إلى باريس، وفعلا قام الطهطاوي بذلك، وسطر لنا الحياة الباريسية بعيون المسلم الذي ولد وترعرع في طنطا، وعاصر الدولة العثمانية. 


تقسيم الكتاب

يقسم الطهطاوي كتابه لمقدمة وأربع مقالات، مقسمة بدورها لعدد من الفصول. وفي المقالتين الأولى والثانية : يصف الطهطاوي خروجه من مصر والرحلة التي قام بها إلى أن وصل مدينة مرسيليا حتى وصوله لباريس، ويخصص لباريس المقالة الثالثة ، وأخيرا يخصص المقالة الرابعة للمعارف والعلوم التي أتى من أجل تحصيلها. 

باريس بعيون الطهطاوي ! 


في البداية يوضح الطهطاوي السبب الذي جعله يسافر لهذه البلاد "التي هي بلاد كفر وعناد، وبعيدة عنا كل الابتعاد، وكثيرة المصاريف، لشدة غلو الأسعار فيها غية الاشتداد" ص13  وهو كما أوضحنا لتحصيل العلم ، فيقول أنه في زمن الخلفاء العباسيين كان للفنون والعلوم مكانة مرموقة جعلت من الدولة الإسلامية دولة متمدنة ومرفه وذات تربية عالية، لكن هذا الأمر تبدل، وأهملت العلوم، ومع هذا التبدل خسر الاسلام وضعفت شوكته، بينما ظفرالإفرنج  بالعلم والعزة وحتى العدل ! وهنا تبدأ المقارنة وفهم الذات ومشاكلها من خلال الآخر، أي أن الصحوة لم تكن بسبب ملاحظة ذاتية ،أو تطور فكري، أو انفجار مشكلة داخلية، بل كانت من خلال مرآة الآخر المختلف، وهكذا سهل موضوع تقديم وصفة شافية للواقع الوهن وهي الإجابة عن السؤال الآتي: ما المفقود لدينا والموجود لديهم؟ بالتأكيد ذلك سبب تقدمهم، وتخلفنا! لكن ما يزيد المسألة تعقيدا هو أن الطهطاوي لم يكتف بإختزال الأسباب التي أدت لضعف الدولة الإسلامية بإجابة السؤال الآنف ذكره بل ترك المتلقي يقع في التناقض.


تناقض، ولكن...

 لم يخيب الطهطاوي أمل أستاذه، ودون بالتفاصيل كل ما رآه وعرفه في فرنسا: فيذكر نظافة المدينة، وحب الشعب للنظافة، حتى على مستوى الشخصي، فيذكر الحمامات العامة، وطريقة تريتبها، والبنيان والملبس والأواني المستخدمة للأكل، وطريقة الأكل، ويعرج على لباس المرأة ومكانتها في فرنسا، ويستغرب من كونها لا تتمتع بحريتها فحسب بل أن لها الأفضلية على الرجال، إذ يجلسها قبله، وتتلقى الزوجة التحية قبل زوجها! حتى أنه قال في موضع " أن الرجال عندهم عبيد النساء وتحت أمرهن، سواء كن جملات أم لا" ص87 ويذم بالرجال الفرنسين عدم غيرتهم على نسائهم وفي نفس الوقت يبين بأنه لا يرى عيبا في مراقصة النساء الرجال، وأن الفرنسيات اللواتي يتمتعن بالأخلاق لا خوف عليهن. 

 ولا يغفل الطهطاوي عن ذكر طبيعة الأرض والمناخ، وطبيعة الحياة التي لا تهدأ ليلا ولا نهارا، ويدون عن الأطفال وتعليمهم، ويتعمق حتى يصل لطباع الفرنسيين فيذكر أنهم يحبون التغيير والسفر، ومحبة الغرباء والصدق، و المروءة الإنسانية، والسرف...إلخ أي أنه يذكر مزاياهم وعيوبهم حسب وجهة نظره لكن بشكل عام يذكر بأن العديد من خصالهم تتشابه مع العرب. أخير ينهي بمختلف العلوم والآداب واللغة، فيذكر مهنة الطب والأطباء - يوردهم باسم حكيم- ويبين طريقة تعلمه للفرنسية ، وكيفية تقسيم العلوم، وما حصله منها، ويذكر أنه تمكن من ترجمة عدد من الكتب في فترة بقائه في فرنسا.

وأما الجانب الأهم في معالجة الطهطاوي، أو الجانب العملي والذي من أجله صنف كمفر سياسي هو معالجته للحياة السياسة الفرنسية، فالطهطاوي يتناول التنظيم السياسي للدولة الفرنسية، والقوانين التي تسير الحياة فيها تحت عنوان - الشرطة-، ويذكر المواد التي تتناول حقوق المواطنين، مثل المادة الأولى : مساواتهم أمام القانون -يستخدم الطهطاوي لفظ الشريعة- و المادة الخامسة: كل الأديان محترمة، ولكل إنسان حق التعبد وفق دينه!  ويعلق : "إذا تأملت رأيت أغلب مافي هذه الشرطة نفيساً" ص 113  وهنا يمكننا رصد التناقض، فالطهطاوي كإمام وواعظ يعلم بأنه وبحسب الشريعة فإن غير المسلم يعتبر كافر وعليه دفع الجزية إن هو أراد العيش في بلاد المسلمين، كما أن ذلك ينطبق على أهل الكتاب فقط، أي أنه لو بوذي قدم لبلاد المسلمين لا يحق له مزاولة عبادته الخاصة بينما في فرنسا ووفق القانون يجوز له ذلك! لكن الطهطاوي لا يذكر هذا الأمر ولا حتى يعرج عليه، ويكتفي بمدح الشرطة الفرنسية! ومن ناحية أخرى نراه يمتدح الإسلام لكونه اسلاما، اذ يحرص على التأكيد بأن أفضل البلدان- بل وأفضل القارات هي المسلمة فقط لكونها مسلمة، بينما يمتدح فرنسا وعلمها ونظافتها وقوانينها -التي هي بطبيعة الحال مدنية- وصولا للقيم والأخلاق والعدالة ـ يورد الفصل العاشر من المقالة الثالثة لفعل الخير في مدينة باريس - مع التأكيد على أنها كافرة ! وهكذا نلاحظ أن العديد من الجمل في الكتاب، كان يفرغ بعضها البعض من المعنى، ولعل بيت الشعر الذي كتبه أبلغ في أن يلخص النقطة: 

" لئن طلقت باريسا ثلاثا ****** فما هذا لغير وصال مصر
فكل منهما عندي عروس******ولكن مصر ليست ببنت كفر"ص70  


لكن وبالرغم من التناقض الذي أوقعنا فيه الطهطاوي، فان اجتهاده في تحصيل العلم، وصدقه مع ذاته في ما كتبه فتح المجال لمن بعده، وحرك المياة الراكدة، فمنهم من وصفه بأنه رائد النهضة لما ترجم ونقل من أفكار، ومنهم من انتقده "لافتتانه بفرنسا"، وإلى اليوم نلمس أشكال من التنافر والتجاذب، ودعوات لتتبع مسيرة الغرب مقابل دعوات للرجوع للأصول الإسلامية، وغالبا يكون الآخر حاضرا في إدراك الذات، إلا أنه وبالمقارنة مع ظروف عصره يظل ما قام به الطهطاوي مبادرة، وقد ساهم في دفع عجلة التقدم الثقافي والحضاري في مصر، إلى أن زالت دولة محمد علي باشا، وعرقلت الجهود وتم نفي الطهطاوي للسودان، وبالرغم من أنه تمكن من العودة لاحقا لكن النهضة التي حققتها مصر في تلك الحقبة لم تعد، وهو من عيوب النظام الفردي في الحكم، فالشخص أقوى من المؤسسة، والشعب أسير التقلبات التي تحدث في القيادة. أخيرا أذكر بأن الطهطاوي لم يغفل عن ذكر الثورة الفرنسية وعملية اسقاط العائلة الحاكمة للمرة الثانية في فرنسا، وبين رأيه في الأسباب، وحللها، وهكذا غدا في التاريخ قنديلا وإن ظلت الدوائر والأسئلة من بعده مسترسلة على جانبي طريق عالمنا العربي، فلإثارة الأسئلة مكانة أعظم من الإجابات. 




المصادر: 

-كتاب تلخيص الإبريز في تلخيص باريز- رفاعة رفعت الطهطاوي

http://www.marefa.org/index.php/%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%B9%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%87%D8%B7%D8%A7%D9%88%D9%8A

http://elbadil.com/2014/10/15/%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%87%D8%B7%D8%A7%D9%88%D9%8A-%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%B6%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A/


الخميس، 12 نوفمبر 2015

تلخيص الكوميديا الإلهية الجزء الثاني - المطهر





كما أوردت في البوست السابق فإن بطلي الرواية قد وصلا إلى النقطة التي انقلب فيها نزولهما إلى صعود، وخرجا من فتحة بعد أن سارا إلى جانب نهر فأصبحا تحت النجوم، وكما هي حال كل الأشياء، فإن هنالك نقطة يتحول فيها الشيء إلى نقيضه، وهكذا فإن الجحيم الذي أوردنا صورته كقمع، تحول إلى جبل المطهر، وهي في الأساس فكرة من التراث المسيحي تتمحور حول كون الذين لم يتوبوا في الحياة توبة كاملة لا يتم مساواتهم بهؤلاء الذين تابوا في حياتهم، ولا في الآثمين في الجحيم، بل يمنحون فرصة التكفير عن ذنوبهم في عالم ما بعد الموت، وهكذا بنى دانتي تصوره للمطهر، ورسمه على شكل جبل في جزيرة.

البداية 

بعد أن طلب من ربات الإلهام مساعدته على الغناء ليكتب انشودته، رفع دانتي رأسه ورأى أربعة نجوم " لم ترها عقب أولى نظرات البشر عينا انسان" وهي ترمز للفضائل الأربع الأخلاقية  ( الاعتدال و الحذر و روح العدل وقوة النفس)، والمقصود بأولى نظرات البشر هن نظرات سيدنا آدم وحواء، أي أن هذه النجوم تشرق فقط في العالم الذي يحتوي المطهر.

الفضائل الأخلاقية الأربع


وما أن نظر إلى القطب الآخر حتى أبصر شيخا وقورا ، وعرف أنه  ماركوس كاتون ، وهو سياسي روماني مؤيد للجمهورية،  وبعد سقوطها على يد القيصر، انتحر! وهو هنا في عالم دانتي بمثابة الحارس لمدخل المطهر، فبالرغم من أن دانتي يعتبر الإنتحار خطيئة - أوردت عقوبتها في البوست السابق- إلا أنه يفسر انتحار ماركوس على أنه توسل لحرية أخلاقية وسياسية وبالتالي مرادفا للشهادة، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على عمق دانتي وحرصه على أن يرسم صورة عادلة بأدق التفاصيل بحيث تراعي نية الانسان اللآثم. 

مشهد لقاء دانتي وفيرجل باركوس كاتون
   بعد تركهما لماركوس كانا لايزالان ازاء البحر، عندها وصف دانتي مشهد تقدم ملاك باتجاههما على النهر من دون مركب ولا شراع، وأخذ يصف شكله النوري، وجناحيه، وبين أنه جاء ومعه مركب حمل أكثر من مائة روح، ألقاهم على الشاطئ، ورسم عليهم علامة الصليب ورحل كما جاء. 



تقترب الأرواح من دانتي، وتحتضنه حتى حرضته على أن يحضنها بالمثل لكن الروح لا يمكن لمسها، ويتعرف دانتي على أحد الأرواح الهائمة ويتضح بأنه موسيقي ايطالي اسمه كازيلا، ويطلب منه دانتي أن يروح عن نفسه بسبب ما شهده في الجحيم ببعض الغناء فإذا به يبدأ الغناء ويقول " يا حبا في صميم قلبي يتفكر".أخيرا تتفرق الأرواح وتجري بعد أن نهرها حارس المطهر باحثة عن الطريق إلى الجبل، وبنفس السرعة انفض دانتي وفيرجل.

أثناء المسير لجبل المطهر ينتبه دانتي إلى أنه الوحيد الذي يمتلك ظلا، ويشرح له فيرجل السبب في ذلك، وينهي شرحه بفكرة الإيمان- أن ليس كل ما نعجز عن رؤيته غير موجود! - وعندما كانا يبحثان عن مكان قابل لتسلق الجبل صادفا مجموعة من الأرواح منها روح مانفريد  ودار بينهم حوار.


قبل صعود المطهر مر الشاعران على ( المرحلة الأولى، والثانية، ووادي الأمراء المهملين نحو واجباتهم).

  يشرح فيرجل لدانتي طبيعة جبل المطهر والتي تقل صعوبته كلما صعدت إلى الأعلى، كما يتعرف دانتي على أصحاب هذه المرحلة من الجبل وهم - الكسالى- وعقابهم أخف بكثير من الجحيم لأنهم تائبون لكنهم تأخروا في التوبه، كما أن لعقابهم نهاية في المطهر وليس سرمديا مثل الخالدين في الجحيم! وكنموذج يحاور دانتي أحد مصممي الآلات الموسيقية الذي عرف بكسله واسمه بلاكو.



المرحلة الثانية: اكمل الشاعران طريقهما إلى المرحلة الثانية، وصادفا مجموعة من الناس تسير وتغني بالتتابع (ربنا، رأفة بنا)، واستغرب الناس من كون دانتي انسانا حيا، واتضح لاحقا أنهم من ماتوا مقتولين في الأرض وتابوا في آخر لحظات حياتهم، وقد حاور بعضا منهم مثل : جاكويو دل ماسيرو، و شارل الثاني لآنجي.

 " الوادي الزاهر" : خصصت للأمراء الذين أهملوا واجباتهم، وفيها التقى شاعرانا ببعض الملوك مثل: الامبراطور رودولف الألماني، وأتوكار ملك بوهيميا، وفيليب الثالث ... منهم من كان يلطم صدره، والآخر يضع يده على خده ويتنهد من الألم والحسرة. 

حلم دانتي وبوابة جبل المطهر :  بسبب كونه انسانا فانيا فقد داعب دانتي النعاس واستسلم للنوم على العشب، وحلم بأن نسرا ذهبيا في السماء كان يحوم حوله وفجأة انقض عليه واختطفه، وشعر بأنهما يحترقان، فاستيقظ من حلمه فزعا، وإذا به قد تم نقله إلى بوابة المطهر!!
حلم دانتي: اختطافه من قبل النسر الذهبي

 شرح فيرجل لدانتي بأن القديسة لوتشيا قد حملته أثناء نومه إلى بوابة المطهر، ثم أخذ دانتي يصف البوابة : تتكون من 3 درجات، وعلى الدرجة الثالثة جلس حارس البوابة  بسكوت، إلى أن رآهما فسألهما ولما نال منهما الجواب، سمح لهما بالتقدم للدرجات الثلاث : كانت أولهن مصنوعة من المرمر - يرمز للطور الأول للتوبة- والثانية من صخرة خشنة محترقة ولونها أحمر داكن - لون الاعتراف بالخطيئة- وآخرها حمراء نارية وكأنها دم في شريان - رمز للمحبة التي تظهر في قلوب التائبين- وأخيرا بعد الثلاث درجات كانت هنالك عتبة البوابة المصنوعة من الألماس- رمز الثبات والمواصلة- وقبل أن يسمح لهما بالدخول، جثى دانتي على ركبتيه وضرب صدره 3 مرات، فوافق الحارس على فتح البوابة ،إلا أنه خط بسيفه سبع خطوط على جبين دانتي - الخطوط ترمز لأول حرف من كلمة خطيئة peccato الحرف P - وذكره بأن لا ينسى بأن يمسح هذه الندوب في الداخل! ثم استخدم الحارس مفتاحين لفتح البوابه أحدهما ذهبي والآخر فضي - مفتاحي الأرض والسماء اللذان أعطاهما المسيح لبطرس- وحذرهما بشأن النظر للخلف في المطهر حتى لا يتم طردهما.


القديسة لوتشيا تحمل دانتي إلى باب المطهر


بوابة جبل المطهر
الافريز الأول من المطهر : بعد أن مضى الشاعران للداخل، شاهدا صخرة عظيمة، وأخذ دانتي يصف روعتها وما نحت فيها من شخصيات مثل: جبرائيل عليه السلام ومريم العذراء... ثم التقى بالجموع التي كانت تدفع ثمن خطيئتها هنا وهم المسيحيون المتغطرسون، وعقابهم كان حملهم لأوزار متراوحة الحجم. بعد ذلك يتلو دانتي دعاء لربه ، ويلتقي ببعض المتغطرسين مثل : غوليلمو ألدوبراندسكي.

الحلقة الأولى من المطهر: المتغطرسون / المغرورون
يمر دانتي وفيرجل عبر طريق مزين برسومات تتناول شخصيات تاريخية وأساطير، ثم التقوا بملاك دلهم على الطريق للافريز الثاني ، وتكون البداية مع سماعه ترتيل "طوبى للمساكين في الروح" - مقولة مشهورة لسيدنا المسيح  والمعني فيهم خفاف العقل - ويبدي دانتي ملاحظة هنا وهي " شتان بين هذه المداخل ومداخل الجحيم، فهنا يدخل المرء وسط الأناشيد، وهناك خلل وحشي الصراخ". كذلك في هذه المرحلة أبدى دانتي استغرابه لشعوره بأنه أصبح أخف، وعند سؤاله لمرشده أجاب بأن الملاك قد لامس دانتي بجناحيه وهكذا مسح أول حرف P من التي خطها حارس بوابة المطهر، وأزاح عن كاهلة وزر أول خطيئة في المطهر! عندها تفقد دانتي جبهته بيده اليمنى ووجد فعلا بأن هنالك 6 أحرف فقط من أصل 7، وابتسم فيرجل عندما لاحظ ما فعله دانتي.

الافريز الثاني:  يصفه دانتي بأنه خال من أي منحوتات أو رسومات، وسمع فيه دانتي دعوات مهذبة للمأدبة، وشخص يكرر"أني أوريستس" - القائل هو بيلاديس صديق أوريستس الذي كان يريد الانتقام من قتلة أبيه، وقد كذب بيلادس وادعى أنه صديقه لكي يحميه لكنهما في النهاية نجيا معا-وشخص يقول "أحبوا من ألحق بكم الضرر" وقد أوضح فيرجل أن سبب وجود هذه الأصوات في هذا المكان هو لتوبيخ الحاسدين، والمنطق وراء ورود هذا التناقض في كل طبقات المطهر هو بكلماته دانتي: "الكابح ينبغي أن يكون نغمة مغايرة"!
 وهكذا فإن الحاسد محاط في المطهر بأصوات المحبة، لكنه محروم من أشعة الشمس، وملقى على الطريق، يلبس جلبابا خشنا، وعيناه تتوسلان، ورأسه يتكئ اما على الصخر أو على زميل له. وكعادته يحاور دانتي بعضا من الشخصيات التاريخية التي سكنت هذا المكان.

الافريز الثاني : الحسودين

الافريز الثالث: " طوبى للرحماء" " أيها الظافر لك البشر" هكذا كانت التراتيل بعد اجتياز دانتي للإفريز الثاني، ومرة أخرى شاهد دانتي ملاكا* ومن نوره اضطر دانتي أن يغطي عيناه مستخدما يده كالمظلة. أما المشهد الذي تمثل أمامه لاحقا كان عبارة عن مجموعة من الناس يرجمون رجلا بلا شفقة، فقام الأخير ورفع نظره للسماء طالبا من الله أن يغفر لقاتليه، ويتبن  بأنه القديس اسطفانس . وقد خصص هذا الإفريز لسريعي الغضب.


الإفريز الثالث : سريعي الغضب
يتجه فرجيل ودانتي للإفريز الرابع عن طريق سلم، وقد التقيا ملاكا مرة أخرى، ثم أبدى دانتي تعبه فتوقف الشاعران، وسأل دانتي عن سكان الإفريز الرابع فأعطاه فيرجل جوابا يتناول نظرية المحبة ، فهي أساس أي فضيلة أو رذيله، و المحبة حسب دانتي قسمان : الطبيعية والعقلية، فأما الطبيعية لا تخطئ، لهذا جميعنا نحب الله، لكن العقلية النابعة عن اختيار قد تخطئ، وقد تفرز محبة للشر، ويبين فيرجل أن الثلاث أفاريز القادمه إنما هي أوجه محبة الشر.
ويستطرد فيرجل بعد احساسه بأن نفس دانتي تريد المزيد من التفسير، فيشرح طريقة المحبة في التفاعل ما بين العقل والروح والفعل، ويبين بأن أداة الإنسان في التعامل مع المحبة في نهاية المطاف هي " الاختيار الحر" - القدرة النبيلة/ العقل- .

الإفريز الرابع: بصراخ ممزوج ببكاء كانت الأصوات في الإفريز الرابع تقول: "ركضت مريم مسرعة إلى الجبل"، و" حتى يسيطر قيصر على ليريدا فهو ضرب مرسيلية ثم انعطف إلى أسبانيا" ، وتبين أنه خصص للكسالى والمهملين، كانوا يركضون ويبكون، وقد إلتقى دانتي بعضا منهم . 

حلم دانتي: غالب دانتي النعاس ونام، فظهرت له امرأة شوهاء ترمز إلى أشكال الجشع الثلاثة : البخل، النهم، والانقياد المفرط إلى شهوة الجسد. وعندما نظر إليها دانتي فكأنه أطلق لسانها، فأخذت تغني غناء جميلا جعله يكابد ليحيد نظره عنها، وكانت كلمات الأغنية: "أنا النداهة، الفاتنة التي تغوي الملاحين في عرض البحر، لفرط ما يسر غنائي من يسمعه " حتى جاءت سيدة قديسة ولبلبتها وأثبطت مسعاها! وسألت فيرجل عن هويتها، فتقدم الأخير ثابت النظرات، وأزال عن المرأة الشهواء ثوبها، فإذا بعفن فاح من بطنها، وقد استيقظ دانتي بعد هذا المنظر من حلمه! 

الإفريز الخامس : " التصقت بالتراب نفسي" هذا ما كان يردده جموع البشر المستلقية على بطونها في الإفريز الخامس، كدلالة لإهتمامها على الأمور الدنيوية، وتولي ظهرها إلى السماء، وهم جموع الذين أحبوا امتلاك أشياء دنوية أكثر مما يلزم وتأخرت توبتهم، أي أن هذه الجموع فيها الجشع والبخيل ...إلخ. ومن الشخصيات التاريخية التي حاورها في هذا الإفريز كان : أدريانو الخامس .
 ثم يحل زلزال في المطهر! ويتبين بأن ذلك أمر اعتيادي وطبيعي، ويرجع لكون أي روح أحست بأنها طاهرة بما يكفي، وأنها كفرت عن ذنوبها في المطهر ومستعدة لتصعد للسماء، ترد عليها السماء بهذه " الصيحة"- أي الزلزال-.

الافريز الخامس: المحبون لتملك الأشياء الدنيوية
الإفريز السادس: "رباه افتح شفتي" - لكي يحمد ربه وليس للأكل- هذا كان الترتيل الممزوج بالبكاء في الإفريز السادس المخصص للنهمين/ الشرهين، وعقابهم كان البقاء حول شجرة تزكي رغبتهم في الأكل بينما هم يزيدون في فقدان الوزن حتى أصبحت أشكالهم وكأنهم جلد على عظم! 

الإفريز السادس : النهمون
في طريقهما للإفريز السابع، تساءل دانتي عن خسارة أوزان الأرواح في الإفريز السادس بالرغم من أنهم لا يحتاجون إلى غذاء؟  فينادي فيرجل الشاعر ستاتيوس ليشرح له، الذي بدوره تناول موضوع الخلق، والكيفية التي تدبغ الروح الجسد.

الإفريز السابع:  يصف دانتي ما شهده وهو عباره عن نيران خارجة من صخور الجبل، ومن الأخيرة خرجت أصوات ترتل : "يا إلهي يا عظيم الرحمة" و "لا أعرف رجلا" - العبارة التي رددتها مريم العذراء عندما علموا بأنها حامل- و" بقيت ديانا في الغابة ومنها طردت هيليس التي أحست في أوصالها بسم فينوس". يتضح أن هذا إفريز شهوانيين الجسد، ويلتق الشعراء الثلاثة ببعض منهم.

دانتي، فيرجل، وستاتيوس في الإفريز السابع
يمضي الثلاثة إلى الأعلى، ويلامس ملاكا دانتي وتمسح خطيئة أخرى، وشعر دانتي بالسعادة لأن لم يعد يفصل بينه وبين بياتريش سوا جدار واحد! لكن النعاس مرة أخرى غالب الشعراء، فتوففوا وراحوا يغطون في النوم، ويرى دانتي حلما سعيدا هذه المرة ويحمل دلالات عميقة كالعادة، إذ شاهد في حلمه فتاة في مقتبل العمروهي تقطف الزهور وتغني، وقالت بان اسمها ليئة وأن شقيقتها راحيل لا تفارق مرآتها -يقصد بها زوجة يعقوب الثانية التي لم تكن مشهورة بجمالها لكنه كانت خصباء بعكس زوجته الثانية التي كانت جميلة وعقيم -  ويستقظ دانتي ليجد الشاعران قد استيقظا قبله.
 و يكلم فيرجل دانتي ويبين بأن في هذه المرحلة ينتهي المشوار الذي يجمعهما، ويزين جبينه بتاج الاكليل كدلاله على أن دانتي الآن أصبح واسع المعرفة وجدير بالتاج. وفي الكوميديا يبقى فيرجل مع دانتي بالرغم من هذا الوداع حتى يلتقي بياتريشى في الجنة الدنيوية اذ يختفي بصورة غامضة.

وإلى هنا أقف في تلخيص  الجزء الثاني من الكوميديا الإلهية بالرغم من أن الأناشيد لم تنته، إذ تسمتر لتصف دخول دانتي للجنة الدنيوية وحتى لقائه ببياتريشي وذكره كعادته كلمة " النجوم" في آخر كل قسم من كوميدياه، إلا إن طريقتي التي اتبعتها في تلخيصي للكوميديا ليس حسب الأناشيد ولا الأقسام إنما حسب المحتوى، لذلك سأرفق جزءً أخيرا يتناول الجنة الدنيوية - المكان الذي عاش فيه آدم وحواء قبل عقابهم- والفردوس السماوية حسب ما صورها دانتي في الجزء الثالث والأخير من التلخيص. 
 في نهاية هذا الجزء أذكر أن المطهر كان له طابعه الخاص المختلف تماما عن الجحيم، ففي المطهر فنون وتراتيل، أحلام وملائكة، فلسفة ونظريات، ووجدت مواضع ترد على ابن رشد، واخرى تورد تصورا عن النساء المسلمات. كما أن هنالك تفاصيل لم أذكرها لحث القارئ الكريم على أن يخوض تجربة عالم دانتي بنفسه، وإن كان صعبا فيمكن الإستعانة  "بالنجوم" :) 


الكوميديا الالهية 

*الملائكة التي لامست دانتي في رحلته  للأعلى في جبل المطهر لم تكن نفس الملاك.

مصادر : 
https://en.wikipedia.org/wiki/Purgatorio
الكومبديا الإلهية، ترجمة كاظم جهاد