الجمعة، 22 يناير 2016

" الأخ الأكبر يراقبك" : ما بين 1984 و2016



يا إلهي لقد أصاب روحي التنميل، لقد أصاب روحي التنميل!  أنا لا شيء من دون عيونه، احتاج إليه ليختار عني، أحتاج إليه ليقول لي من أنا؟ أحتاج إليه ليطعمني ويكسيني، ليقرر لي مصيري،أنه حبيبي، أنه أخي وأخوكم الأكبر، لكن ماهذا الألم الفاتر في عمق كياني؟ ماهذا الصوت الذي يصدر صوتا مبحوحا وكأنه أمضى قرونا يصرخ؟ حقيقتي؟ كرامتي؟ مهما كانت إني أشفق عليها، لكن تلك حدود شعوري، أنا حرة أخيرا، لقد أصاب روحي التنميل، لقد  أصاب روحي التنميل... 








قوة 1984!

لا أعتقد أن أحدا لم يقرأ رواية 1984 ل(جورج أورويل) فشهرة هذه الرواية وكاتبها أكبر من أن يمضي الإنسان حياته دون أن يسمع عنها أو على الأقل عن روايته  (مزرعة الحيوانات)، خصوصا في عالمنا اليوم! لابد أن يصادفك منها إقتباس في الجريدة، أو تغريدة، أو حتى ذكر في مقابلة تلفزيونية سياسية ...إلخ والسبب في ذلك قد يرجع لعدة عوامل لكن أكثرها قوة برأيي هو أن الرواية تتعامل مع تلك المناطق المظلمة في عقولنا والتي نعتقد بأنها خارج نطاق إرادتنا: بمعنى أننا كبشر نعيش اليوم وفق نظام أنشأه أسلافنا- لم نشارك في إنشائه بشكل مباشر- ، وإلى سن معينة نعتقد بأن ما عرفناه هو "النظام الطبيعي"، بينما في الواقع هو نظام يديره بشر معاصرون -بغض النظر عن نوع التشريع الذي يعتمد عليه-، لذلك نجد بأن موضوع الثقة في النظام يظهر بمجرد أن ندرك-وغالبا ندرك بالمقارنة- وهنا تظهر معالم في المناطق المظلمة، و ستتراوح درجة ثقتنا في النظام حسب درجة الوعي والشفافية ومركزية السلطة في المجتمع، فكلما زادت مركزية السلطة وقلت درجة الشفافية مع ارتفاع درجة الوعي ستجد نفسك أمام أزمة ثقة، ويمكننا القول بأنه كلما زاد الوعي وزادت الشفافية وقل تمركز السلطة: قلت المساحات المظلمة في عقل الإنسان، لكنها لا ولن تختفي مادمنا بشرا ولن يكون على الأرض مجتمع (طوباوي) على غرار مدينة أفلاطون، لذلك فالمساحات المظلمة باقية، وموجودة وحقيقية بالنسبة لنا جميعا، وبدرجات متفاوتة، سواء أدركنا ذلك أم لم ندرك، وفي حال إدراكها يظل لدينا خيارات مثل أن ننكر وجودها أو أن نمتدحها ونبرره أو نحاربها ونخلق شيء عوض عنها ...إلخ  وهنا يكمن سر قوتها وتمكنها من أسر القارئ وحمله في رحلة التقمص الوجداني.

الرواية باختصار

تفترض الرواية أن النظام الذي سيعيش فيه الإنسان في المستقبل - المستقبل بالنسبة للكاتب كان عام 1984- هو نظام شمولي  شرس جدا إلى درجة أن المساحات المظلمة فيه التهمت الأفراد وحولتهم إلى مجرد أرقام!!! فكل شيء يخضع للنظام، ويبرر باسم "المصلحة العامة"، ورمز النظام هو "الأخ الأكبر" الذي يترأس الحزب الحاكم، ويعرض الشعب لسلسلة من عمليات "غسل الدماغ"، ويجبرهم على أداء مراسيم الطاعة والولاء حتى بات الفرد يقوم بها بشكل لا إرادي، كما أنه إعتاد على أن يكون مراقبا 24 ساعة في اليوم،فحتى في بيته هنالك كاميرات مراقبة تراقب المواطنين وهم يؤدون مراسيم الطاعة والولاء بانتظام، كما أن الأخ الأكبر أقرب للأطفال من آبائهم وأمهاتم، على سبيل المثال: أقدم أحد الأطفال في الرواية على الوشاية بأحد والديه عندما نطق أمورا ضد النظام أثناء نومه، أي أن المعارض حتى على مستوى اللاوعي يتم عقابه في عالم 1984 !!!! كذلك يربط الكاتب العمل الحكومي والوزارات بمشاعر إنسانية، كوزارة الحب ووزارة الحقيقة...إلخ ويورد بأن هذا النوع من النظام يجرد الإنسان من كل شيء يجعله إنسانا، فلا الحب حبا، ولا الحرية حرية، فالحب الوحيد هو حب "الأخ الأكبر" ، والحرية تخضع للرقابة الصارمة، والحقيقة يتم تصفيتها "بمصافي الحزب الحاكم"، ولكن وبالرغم من كل ذلك يظل الأمل، ويظل الانسان يحارب نفسه لينقذ نفسه، وهكذا يجعلنا الكتاب نلتفت لشخص واحد ما بين هذه الجموع، كان يتوق لأن يصبح "إنسانا"، كان يمضي حياته وهو يتساءل عن العالم المحبوس داخل الشخص الجالس بجانبه، هل هو كعالمه؟ هل هنالك من يشعر غيره؟ " فمد يده نحو دفء أشعة الشمس" وخاض تجربة كشف المجهول.

1984 = 2016 ؟

 في ظل الثورة الرقمية، بدأنا نشعر وكأن الاتصال الدائم بالإنترنت هو "نظام طبيعي"، ولا نكلف على أنفسنا حتى قراءة "شروط الخصوصية" للتطبيقات التي نحملها على أجهزتنا، لا نفكر في "المساحات المظلمة" ، ونسلم بأن شكل الحياة الحالي أمر مسلم به، وخارج عن إرادتنا، لكن ما أن نمعن النظر نجد بأن جوهر الرواية وعالم اليوم متشابهان إلى حد كبير، فأنت وأنا مراقبان، علاقاتنا، شخصياتنا، ميولنا، ذنوبنا، مزايانا وعيوبنا، أفكارنا واعتقاداتنا، كلها تقريبا مكشوفة اليوم، والشيء المضحك المبكي أن الإنترنت نظام "عالمي" لكن كل دولة أصبحت تشرع استخدامه وتخلق نظاما مبني على نظام، أي أنها تخلق"مساحات مظلمة" إضافية على تلك العالمية، ولا نعلم ماهي "المصفاة" التي تستخدم لغربلتنا، لأن "المصافي" ترتبط "بالمصالح"،  والمصالح تختلف باختلاف "المكان الذي تقف عليه"!  مثلا بيانات مدير إدارة في قطاع حكومي لا تبدو مهمة، لكن لمن يملك مخطط معين فهذه البيانات مهمة وحساسة! كذلك من المفارقات الغريبة أن في الرواية هنالك غرفة مهمة جدا في الحبكة، رقمها 101 وطبعا لغة الحواسيب تعتمد على هذين الرقمين، فهي تنبأ جورج بالمستقبل حقا؟ 














 
العيون الخمسة !!!

للتأكيد على أن التشابه ما بين ما سطره جورج وحاضرنا أذكر على سبيل المثال أحد تحالفات (استخبارات الإشارة)  الذي لم نسمع عنه إلا بعد 70 سنة تقريبا من إنشائه ويسمى (بالعيون الخمسة) ،وهو يضم وكالات استخباراتية من 5 دول وهم : الولايات المتحدة الأمريكية- بريطانيا- كندا- أستراليا - نيوزلندا، ولا توجد معلومات كثيرة عنه، كما من النادر ذكره في وسائل الإعلام! كانت بدايته في عام 1946 بموجب  الاتفاقية الأمريكية- البريطانية  والتي كان الهدف الأساسي منها تبادل المعلومات الاستخباراتية الخاصة بالاتصالات ما بين الولايات المتحدة وبريطانيا، خصوصا تلك التي تحدث في الكتلة الشرقية، وانضمت كل من الدول الثلاث الباقية لاحقا، واليوم وبعد تسريباتإدوارد سنودن  أصبحنا نعلم أن تحالف العيون الخمسة قادر على التنصت على أي شخص في العالم ، وقراءة بريده الإلكتروني، والاطلاع على بياناته الخاصة ...إلخ، فقد استخدم التحالف أنظمة تجسس مثل "إكس كي سكور"  على خوادم متاجر التطبيقات المشهورة، والتي يستخدمها جميع مستخدمي الهواتف الذكية في العالم! كما أنها أوجدت نظام عالمي لرصد البيانات واسمه (إيكيلون)، ويقال بأن التحالف اليوم توسع ليضم 9 دول، لكن لا أحد يستطيع تأكيد هذه المعلومة، وطبعا هذا التحالف الذي سمعنا عنه أما ما خفي فعلى الأرجح أنه أعظم !

إذا...



يبدو أن الخيال لا ينفك يختلط مع الواقع في لعبة الزمن، ولو كان بتحويرات هنا وهناك، فالأخ الأكبر يراقبك فعلا سواء تدرك ذلك أو لا تدركه، ولا نعلم ما هي "المصافي" المستخدمة، فقد تكون اليوم مستهدفا لأنك تكتب في البايو الخاص بك في وسائل التواصل الاجتماعي "ليبرالي" غدا يكون دور "الصحفي" أو "المسلم" ... فهل يطل الأمل على الواقع كما حدث في الرواية؟ وإن حدث ذلك هل تتشابه النهايات؟





مراجع:

http://aitnews.com/2015/05/22/%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D9%84%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%85%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%87%D8%AF%D9%81-%D9%85%D8%AA%D8%A7%D8%AC%D8%B1-%D8%AA%D8%B7%D8%A8%D9%8A/

https://en.wikipedia.org/wiki/XKeyscore


https://www.privacyinternational.org/node/51




الخميس، 7 يناير 2016

همسة في أذن الجنون


بذرة تجثو، فأفرع منبثقة بانحناء، تدور وتدور، وعلى الأرض تحبو، شائكة، طلابة للماء، مانعة، لا تفرق بالقتل بين حبيب وعدو، يسقونها شهدا، تطلق غازا يملأ القلب كرها، يسقونها دما، تقذف ما حولها ومن قمم أشواكها لهبا، تحرق الدنيا بما فيها، لا تهتم حتى بجنينها، تجدون مثيلاتها بالتاريخ تجثو، فأفرع منبثقة بانحناء، تدور وتدور، وعلى الأرض تحبو...





لماذا نحارب بعضنا البعض؟

هنالك عدة نظريات ومدارس تحاول أن تدرس الحرب، والأسباب الكامنة وراءها، شخصيا أؤمن بأن لكل أزمة تاريخية أسبابها الخاصة، والتي تتدخل في إنشائها عدة عوامل بنسب متفاوته، مثل: أن تكون دولة في أزمة إقتصادية، وذات نفس عنصري، ومن الناحية العقلانية تحسب بأن ميزان القوى في هذا الإقليم لصالحها، وأن الفائدة تفوق الثمن، أو أن تكون الدولة تشعر بالخطر جراء تعاظم حجم دولة أخرى في الإقليم فتتآمر ضدها "حرب استباقية "...إلخ كما أؤمن بأن الذي يأمر بالحرب دوافعه على الأرجح مختلفة عن الذي يموت فيها، وبعد أن مرت الإنسانية بعدد لا يعد ولا يحصى من الحروب، وتكبدت فدائح كبرى، قرر "المنتصرون" بأن يرسوا نظاما للعالم يمنع نشوب الحروب ويحافظ على السلام الدولي، لكن على ما يبدو فإن هذا "النظام الجديد" المتمثل بمجلس الأمن، لم يمنع الحروب، وذلك جعل الناس تفقد ثقتها به، ولا ترى فيه سوى واجهة لخداع العالم، ومداراة لما أثبته التاريخ مرارا وتكرارا وهي: أنه يستحل دم أخيه بسبب حاجاته ورغباته.

الحرب الوحيدة المبررة وحرب الوكلاء.

1-المصلحة تسير الدول.
2-"الأخلاق" ليست رادعه للدول.
 3-لابد من استخدام القوة لردع الدول.
 4-لإجبار الدول على الحلول السلمية والتعايش: لابد من خلق توازنات للقوى.

هذه هي الفرضيات التي يدعي العالم بأنه يستند عليها، لذلك فإن الحرب الوحيدة المبررة والقانونية في العالم اليوم هي : الحرب الدفاعية، بمعنى لا تدخل أي دولة في حرب مع دولة أخرى إلا في حال تعرضها إلى إعتداء على أراضيها، لكن عالمنا ذكي، وكحال جميع "المباريات" فإن قواعد اللعبة في تغيير دائم كلما تغير الإنسان وعالمه ومصالحه، وهكذا راج في عالمنا اليوم نوع آخر من الحروب، وهي حروب لا تخرق تعريف الحرب بمفهومها التقليدي، ألا وهي "الحرب بالوكالة" proxy wars - وهي حروب "ذات نفس طويل"، وتقوم على استخدام طرف ثالث لخوض المعركة، مثل استغلال المرتزقة والتي تتلاقى مصالحهم مع الدولة الضد، ومع هذا النوع من الحروب غير التقليدية لابد من استخدام حلول غير تقليدية، فأنت في هذه الحالة تطارد شبحا، فكرة مدسوسة ما بين الجماهير، وليست كيانا حقيقيا، لذا عليك أن ترفع من مستوى الإحاطة والدبلوماسية ورضاء الشعب عنك (المحافظة على الشرعية) ، فهذا النوع من الحروب يستغل مكامن الضعف، لذا فإن أفضل طريقة هي إعدام مكامكن الضعف، والأبواب الخفية التي قد تستغل، مثل الرد على حجج الخصم و الإسراع في عملية الإصلاح من ثم يتم قلب "السحر على الساحر" ، فالدولة "البريئة" يتم تعريتها بعد التحصين الداخلي، ويمكن أيضا استخدام "السياسة الناعمة" سواء كانت اقتصاد أو الدبلوماسية الثنائية...إلخ لحشد التأييد الدولي وتضييق الخناق على الخصم الذي إما سيتغير مجبرا أو سينفجر ويجني على نفسه، ولن يستفيد من أوراق الضغط التي يمتلكها مادامت نقطة الضعف في يدي قد ألغيتها، فمن لا يتغير أمام لعبة البقاء، ببساطة ينقرض! 


حرب الحاضر ومستقبلنا

من يدرس التاريخ يتوصل لإستنتاج أنه لا توجد "حرب مقدسة" بل توجد حرب ترفع باسم شعارات مقدسة، ولا توجد حرب شافية، الحرب دائما مؤذية، والقوة هي آخر ملاذ لرفع الظلم بعد وقوعه، وليست أداة لرفع مستوى رفاهية، أو طريق مختصر لزيادة الغنائم! إن "المشاعر الجياشة" مع القوة غباء، والإنقياد وراء "الجمهور" خطيئة، فما نحتاج هو الحكمة والثقة بالذات، اصلاح العيوب بدل من الثورة واتباع نفس أسلوب الآخر، فالعدو يمكن الإستفادة منه لشحذ الذات بدل من إشغال الذات فيه والتشبه بما يفعله، فالمستقبل لا ينتظر المجانين الذين يصرخون "الثأر ولا العار"!! المستقبل للمتروين، لأصحاب النظرة البعيدة التي يقع أصحابها فريسة الحاضر والواقع، للمفكرين خارج الصندوق، للذين يمتلكون في داخلهم القدرة على التحمل والصمود وكسر القيود الذاتية، بدل من تقييد الآخر الذي لابد سيأتي غيره ليستغل الواقع الواهن. 

عندما يتحدث الحكماء عن الحرب 

- أعلى مستوى من فنون الحرب هو إخضاع العدو دون قتال- صن تزو
- كلما بذلت العرق من أجل السلام، نزفت أقل في الحروب- نورمان شوارتسكوف
- لا تعتقد أن الحرب ليست جريمة، مهما كانت مبررة أو ضرورية- أرنست همنجواي
- لا أعرف ما نوع السلاح الذي سيستخدم في الحرب العالمية الثالثة، لكن الحرب العالمية الرابعة ستخاض بالعصي والحجارة - أنشتاين







الاثنين، 4 يناير 2016

رسمتي لدانتي


بالأمس نشرت آخر تلخيص لآخر قسم من الكوميديا الإلهية، وأنوه بأني أيضا قرأت رواية (الجحيم) لدان براون والتي تتمحور حول دانتي بشكل كبير، أي أنني تعرضت لجرعة مكثفة من "دانتي"!! وهكذا عندما كنت أعتني بابنة أختي في أحد الأيام، وتقريبا لا شعوريا، بدأت برسمه، لكني أؤكد بأني لا أعتبر نفسي "فنانة" ولا حتى هاوية، انما أرسم بشكل متقطع، حسب الظروف، طبعا "ساعدتني ابنة أختي كثيرا"، لذلك أنشرها عرفانا لذلك الوقت ولدانتي :)  



بالرصاص : ملاحظة هذا النوع من الرصاص سيء للرسم 

الألوان المائية 

النهائية 






الأحد، 3 يناير 2016

الجزء الثالث والأخير من الكوميديا الإلهية - الفردوس


وهج الفكر المرشد للإله يملأ قلبي حبا، نغمات الإنشاد وحبيبتي متعاظمة الجمال نسبح معا إلى الأعلى، نتجاوز سبعا، فإثنان لا يقوى فان على وصفهما، اجتزت الاختبارات، قابلت من يحمل مكانة عظيمة في إيماني، وانتهيت بالنجوم كعهدي، وعند عودتي للواقع غدوت بورق الغار مكلالا، وأغرقتني أمي فلورينسا التي نبذتني يوما بالحب والتقدير والاحترام ، وكلي أمل إني في هذه اللحظة وحبيبتي متعاظمة الجمال، نسبح معا إلى الأعلى... 

الكوميديا الإلهية كاملة : رحلة دانتي عبر الغابة والجحيم في الأسفل، ثم تنقلب الأرض ليصل حتى المطهر، فالفردوس الأرضي والأجرام وأخيرا الأمبيريوس 

الفردوس الأرضي : لقاء بياتريشي المنتظر!

كما أن أوردت في البوست السابق، فدانتي وفيرجل والشاعر ستاتيوس وصلا لضفة نهر، وهناك قابل فتاة تقطف الورود، فيدور بينه وبينها حوار- لا يذكر دانتي هويتها لكن الدارسين يعتقدون بأنه يفصح عنه لاحقا- وكل ما يذكره عنها في هذه المرحلة بأنها تذكره ببروسيبينا   التي اختطفها بلوتو بينما كانت تقتطف الورد. ويتبين لدانتي أنه أمام نهري الليثي و إينوي، وبينما الأول يستعيره دانتي من المثولوجيا الإغريقية كنهر لمسح الخطايا، يخترع نهر الإنوى ليهب اللإنسان ذاكرته الحسنة. 

وفي الجهة المقابلة من النهر، يصف دانتي موكبا عظيما، محاطا بالأنوار، وتملؤه التفاصيل، يتقدمه أربعة حيوانات اسطورية مجنحة مكللة بالورق الأخضر، وكان الذي يجر العربة من بينهم هو الجريفون بعنقه- رأسه نسر وجسده أسد ويرمز للمسيح- وعند العجلة اليمنى من الموكب كان هنالك 3 سيدات يرقصن، يرمزن للفضائل الدينية الثلاث، الأولى المحبة وترتدي اللون الأحمر، فالرجاء ترتدي اللون الأخضر، وأخيرا الإيمان وترتدي اللون الأبيض. أما عند العجلة اليسرى من الموكب فكذلك كان هنالك 4 سيدات يرقصن، ويرمزن للفضائل الأخلاقية الأربعة والتي تم الإشارة لها في المطهر ، وبعد الموكب كان هنالك  سبعة رجال منهم القديس لوقا وهيبوقراطيس ، وهم يمسكون بوردة حمراء وحواجبهم تشتعل نارا.

موكب بياتريشي

ويستمر دانتي بوصف الابهار بصور خيالية ممزوجة بالغناء والورود المتناثرة بالهواء، إلى أن تظهر بياتريشي من العربة، مرتدية غصن الزيتون الأخضر، ونقابا أبيض، من تحته ثوبا أحمر - رمز الفضائل الدينية الثلاث التي سبق الاشارة لها- حينها التفت دانتي لفيرجل ليقول له بأن كل قطرة دم في جسده ترتجف، لكنه فوجئ بأن فيرجل قد رحل!

ولأول مرة يورد دانتي اسمه في الكوميديا الإلهية على لسان أي من الشخصيات، وطبعا كان ذلك على لسان حبيبته بياتريشي في أول حديث لهما، وقد لامت بياتريشي دانتي على تجاهله ندائها عندما كان على سطح الأرض، وحثته على الإعتراف بذنبه حتى تكون السماء رحيمة به، فخر راكعا وأغمى عليه، وعندما صحى رآى وجه الفتاة التي كانت تقطف الورد في البداية، فراحت تغمسه في النهر لينسى خطيئته، وإذ بالحوريات الأربعة - اللاتي يرمزن للفضائل الأخلاقية والتي سبق ذكرها- يرقصن حوله، وأخيرا يتجه لبياتريشي ليركب العربة معها، وفي تحليقهما يشاهد دانتي على الفردوس الأرضي الشجرة التي أكل منها سيدنا آدم، وعملاق ومومس يستخدم الرمزية للدلالة على فساد السلطة الباباوية- وبعدها ينطلق مع حبيبته نحو النجوم - إلى هنا ينتهي قسم المطهر-.

لقاء دانتي الأول ببياتريشي


رحلة دانتي عبر السماوات السبعة 


يتجاوزان مقام البرق، ويصلان للسماء الأولي: سماء القمر، وسكانها هم الأرواح التي لم تف بنذورها، وكعادة دانتي يورد رسائله في حوارات أثناء الرحلة، فيدور حديث بين بياتريشي ودانتي عن الله ، وعن القمر والبقع الداكنة التي به، ويذكر دانتي القصة الشعبية التي كانت متداولة لتفسير البقع الداكنة وهي أن قابيل كان يسكن القمر، وأنه حكم عليه بأن يحمل كومة من الحطب إلى الأبد، إلا أن بياتريشي تصحح ذلك باستعانتها بنظرية ابن رشد للأجسام المضيئة. ومن الأرواح الطوباوية التي يلتقي دانتي بها في هذا المقام الراهبة بيكاردا.

أما السماء الثانية فهي سماء كوكب عطارد ، "مزدان بأرواح طيبة نشطت من أجل أن يتبعها الشرف والمجد" ، ومن سكانه روميو دو فيلنوف، وتجدر الإشارة في هذا المقام بأن الفردوس الذي يتحدث عنه دانتي مستمد من الدين المسيحي لذا نجد بأن دانتي يتناول في هذا الجزء العديد من المسائل العقيدية في الديانة المسيحية، مثل حكم الثأر لمقتل المسيح، وتقوم بياتريشي باستخدام مبدأ الحلول وفساد العناصر لمعالجة هذه المسألة لدانتي.

ينتقلان بعدها للسماء الثالثة وهي سماء كوكب الزهرة، وبما أن الكوكب مرتبط بفينوس في المثولوجيا الإغريقية - إلة الحب والجمال- نجد بأن أرواح هذه السماء هي الخاضعه للحب، ويذكر بأنه لاحظ بأن بياتريشي ازدادت جمالا عند وصولهما هذه السماء، ومن الأرواح التي التقاها هنا : الشاعر فلوكيه المرسيلي.

 في السماء التالية يلتقي دانتي بتوماس الإكويني  الذي يريه الحكماء الإحدى عشر للتاج الأول، والتاج الثاني، وهم أرواح أهل اللاهوت والفلاسفة  الذين يسكنون السماء الرابعة : سماء الشمس، وأحب أن أورد ملاحظة هنا وهي أن دانتي دائما يربط ما بين الخطيئة أو الحسنة، والمكانة التي تحظى بها، فكما كان العذاب يتعاظم ويحمل علاقة منطقية بشكل ما مع الخطيئة في كل من الجحيم والمطهر، كذلك هنا نلاحظ بأن هنالك تناغم وانسجام ما بين الأرواح والسكان الذين يسكنون السماء، فالشمس نور، وكذلك الفلاسفة واللاهوتيين بالنسبة لدانتي، وكوكب الزهرة برمز للحب، لذا كان سكانه الخاضعين للحب ...إلخ. ومثل بقية السماوات تدور أحاديث لاهوتية ذات صلة بالديانة المسيحية في سماء الشمس. 

يكمل دانتي وبياتريشي التي تزداد جمالا كلما صعدا إلى السماء الخامسة، ألا وهي سماء المريخ، والأرواح التي تسكن هذا المكان هم: الأرواح التي حاربت من أجل إيمانها، وهنا يلتقي دانتي بجده الأكبر، ويفخر بنسبه، ويلتقي أيضا بأبطال اليهود والمسيحية وأبطال الملاحم.

ويصلان إلى السماء السادسة: سماء المشتري، ويورد دانتي في هذا المقام صورة خيالية بديعة، وهي قيام مخلوقات مباركة المضيئة بتشكيل الحرف D ثم الحرف I  فالحرف L... وهو بذلك يقصد عبارة diligite iustitiam أي أحبوا العدل يا أيها الذين تسكنون الأرض- من سفر الحكمة في العهد القديم- أي أن هذه السماء خصصت للعادلين والأتقياء، وتتحول لاحقا لزهرة زمبق، ثم إلى نسر يحاور دانتي.


النسر الذي تشكل بعد عبارة العدل في السماء السادسة


أخيرا يصل دانتي لسماء الكوكب السابع: كوكب زحل، وفيه التأمليون، وهنا تكف بياتريشي عن الابتسام، ولا تسمع أناشيد وموسيقى مثل بقية السماوات التي مر عليها دانتي، وتبين له بياتريشي السبب في أن لا حواس فانية تستطيع أن تستشعر ذلك الألق المكنون في هذه السماء، ويرى دانتي سلما ذهبيا يرقى إلى الأعلى، فيرتقيه ويمر ببرج الجوزاء الذي هو نفسه من مواليده إلى السماء الثامنة ويلقي نظرة أخيرة إلى السماوات السبع التي تجاوزها.

السماء الثامنه والسماء التاسعة 


"وكما تقف تريفيا أسفل القمر الساطع، ضاحكة للحوريات الأزليات، المزدهرات تحت خلجان السماء*** رأيت فوق آلاف المشاعل، شمسا تتغمدها كلها، كما تضيئ شمسنا أنجم العلا" (ص935-934 ،الكوميديا الإلهية) هكذا وصف دانتي المنظر أمامه، وهي سماء الأنجم الثابته، وهنا يتعاظم كل من جمال بياتريشي والمشهد بشكل عام، ويورد دانتي صورا خيالية تكاد أن تتفوق على أي لوحة يمكن لرسام أن يبدعها، وهنا يرى مريم العذراء تصعد وراء ابنها يسوع مكللة بهالة الملاك، وجبريل.

أيضا في هذا المقام يتعرض دانتي لسلسلة من الاختبارات على أيدي القديسين المسحيين، وأولهم هو اختبار الإيمان على يد القديس بطرس، فلما سأله عن ماهية الإيمان يجاوب دانتي "الإيمان جوهر كل مأمول، وبرهان ما لا يرى; كذلم أرى أنا كنهه" - كنهه مفردة من المعجم الاسكولائي للدلالة على الماهية*- و يمتحنه القديس يعقوب دانتي في الرجاء، والقديس يوحنا في المحبة  والتي قال فيها دانتي "فالخير بما هو خير، ما إن نسمعه حتى يشتعل العشق فينا، لاسيما وأنه ينطوي في ذاته على طيبة كبيرة" (ص962 ، الكوميديا) أي أن دانتي يعتقد بأن نشر المحبة يتناسب طرديا مع كمية الخير في الانسان، وهو أمر يمكن لأي إنسان الإعتقاد به بغض النظر عن ديانته بوجهة نظري. وفي نهاية الاختبارات تلتف أرواح الطوباويون حول دانتي لتغني "قدوس قدوس قدوس" ويرفع دانتي بصره ليرى سيدنا آدم عليه السلام. ومن الجدير بالذكر أن دانتي يصرح في هذه السماء بأنه واثق ومتأكد من نيله إكليل الشعر عند عودته للأرض في معمدانية سان جوفاني تحديدا. 

أما السماء التاسعة فهي بطبيعة الحال الأكثر إبهارا، والأجمل، وأذكر بأن الصعود للأعلى في السموات السابقة جميعا كان عن طريق البرج الذي قبله - مثلا برج الجوزاء صعد من خلاله للسماء الثامنة- إلا هذه السماء، فيذكر دانتي بأن طريقة وصوله إلى هنا لا يستطيع إدراكها عقل بشري، وهو كشخص متدين يستخدم هذا المنطق كثيرل في هذا القسم من كوميدياه بشكل عام، فعن طريقة صعوده يقول دانتي: " فكري العاشق الذي ما برح يحاور سيدتي راح يشتعل أكثر من أي وقت مضى رغبة في التحديق بها عن كثب، ولو أن الفن أو الطبيعة صنعا أفخاخا لاجتذاب الأرواح وأسر الأعين في الجسد البشري أو عبر التصاوير، لبدا كل سلطانهما هنا بالقياس إلى الحسن الإلهي الذي كان يبهرني عندما ألتفت إلى عينيها الضاحكتين. فانتزعتني القدرة التي ألقتها نظرتها في من عش ليدا الجميل ، وقذفتني إلى السماء التي هي أسرع الجميع" (974-975، الكوميديا) ويقصد ب "أسرع الجميع" المحرك الأول، وهي سماء الامبيريوس أي الفكر الإلهي الذي يشتعل حبا، وفيها 9 دوائر نارية من الملائكة، وفي المنتصف نقطة نورانية، والدوائر تتحرك ببطئ أو سرعة حسب ارتباطها بالمحور، ويصف دانتي جمال المكان ونهر النور، ويدور حديث عن الملائكة، ثم تتشكل أمامه الوردة السماوية البيضاء، ويصف عرش مهيئ لهنري السابع في الوردة - كان دانتي يعلق علي الملك هنري آمالا لإصلاح فلورنسا لذلك أورد هذا العرش- ، أخيرا ترتقي بياتريشي للتتخذ مكانها في الوردة البيضاء، ويحل محلها القديس برنار، ويتناول دانتي جملة من المواضيع العقيدية في الديانة المسيحية منها سر الثالوث، وينهي ملحمته بجملة "الحب الذي يحرك الشمس وسائر النجوم" (1035، الكوميديا). 


المحرك الأول في السماء التاسعة : الامبيريوس

الوردة السماوية 

تعقيب 


بغض النظر عن الاعتقاد الديني بمفهومة الضيق، إن ما ورد في نص الكوميديا الإلهية لهو بالفعل رحلة إنسانية سحرية متصلة بالأعماق وبما هو كامن وحقيقي فينا، ففي نهاية اليوم دانتي رجل/إنسان مثلنا تماما، مر بتجربة حب انتهت قبل أن تبدأ، ونبذ من قبل وطنه، فصهر كيانه، ورفض أن يموت نكرة، وأبدع بالورقة والقلم، ما تهافت الريش والعقول على تذوقه، اتجه إلى الله كفكره وكملاذ لروحه، وانتهى به الأمر ليغني البشرية ويصرخ أنغاما موسيقية في وجوه المشككين بقوة وجبروت المحبة.

رحلة دانتي - الكوميديا الإلهية
المصادر : الكوميديا الإلهية، ترجمة كاظم جهاد.
تلخيص الأجزاء الأولى: 
الجحيم:http://shaikha25.blogspot.com/2015/10/blog-post.html
المطهر:http://shaikha25.blogspot.com/2015/11/blog-post.html