الجمعة، 4 أغسطس 2017

جزيرة بالي : مختصر "الجنة"




شيطان في مطار نغوراه راي
مع أولى خطواتي على الجزيرة، شعرت بسحرها، فبسبب سقف مطار نغوراه راي الدولي المفتوح، تسللت أصوات الطبيعة بسهولة إلى داخل المطار، متخطية الجدران المزخرفة، والتماثيل، ومجسمات الآلهة والشياطين، ومحلات بيع التذكارات المتواضعة والفارهة، ووصلت إلى مسامعي واضحة: خرير مياة وزقزقة عصافير، ومع امتزاج الأصوات بما كانت تراه عيناي، قلت لنفسي: نعم سأحب هذا المكان! صحيح بأني كنت على وشك تغيير رأيي عندما ضربني الواقع على شكل مبنى مواقف السيارات التي لا يتناسب مع جمال المطار، والشوارع الضيقة والخطيرة، لكن حين أدركت بأني لم ولن أعيش مثل هذه التجربة الفريدة في حياتي، استسلمت فتاة المدينة في داخلي لعاشقة الثفافة والجمال، لمدة تسعة أيام.




الخطوط العريضة

الظلام يزيد من وهج القمر
استمرت الدراجات النارية بالتدفق عبر نافذتي السيارة التي أقلتني من المطار، في ظلام شبه دامس، كانت اضاءة مصابيح السيارات والدراجات النارية هي الاضاءة الوحيدة في الشارع، وعليه لم أتمكن من رؤية معالم الجزيرة، لكن ذلك لم يمنعني من "التعرف عليها"، إذ سألت السائق - ابن البلد - عن كيفية القاء التحية باللغة المحلية؟ فأجاب: سيياستراستو om suastiastu!! وبعد عدة محاولات لنطق الكلمة، بدأنا نتجاذب أطراف الحديث، وبدأت أولى الخطوط العريضة لتصوري عن الجزيرة في التبلور : 


1- الخط الأول: على عكس غالبية السكان في أندونيسيا فإن الأغلبية في جزيرة بالي يدينون بالديانة أو الفلسفة الهندوسية، وهم متصلون بجانبهم الروحي بشكل كبير. 
2- الخط  الثاني: المصدر الأول للدخل في الجزيرة يأتي من قطاع "السياحة"، ونستنتج من ذلك أن شعب بالي محترف في التعامل مع السواح. 
3- الخط الثالث : عام 2002 شكل ضربه كبيرة للجزيرة بسبب أحداث ارهابية.
4-الخط الرابع: هنالك نوع من التعايش ما بين الطبيعة والانسان - هارموني. 

في نهاية الرحلة شكرت السائق وسألته عن كيفية قول(إلى اللقاء) أو (مع السلامة) في لغتهم المحلية، وأجاب بجملة -انتهى في المطاف بأن أستخدمها للدلالة على شيء آخر غير معناها- وهي : أوم سانتي سانتي سانتي أوم  um santi santi santi um .




التعارف



قبل هذه النقطة من الرحلة شكلت تصورا عن الجزيرة، لكن لا شيء يشبه اللقاء في حضرة الشمس الباهرة، إذ تحولت المساحات الداكنة التي كنت أراها من شرفة المنتجع إلى وادٍ عميق متشابك الأغصان، الضباب يحتضن بعض المرتفعات التي تحيطه، ومن جوفه تنطلق مختلف الأصوات معلنة "هنا حياة"! ولمدة 9 أيام اصغيت لتلك الحياة، وبالرغم من الخوف الذي اعتراني أحيانا، خصوصا عندما سمعت التحذير الآتي عند باب معبد مشهور: " سيداتي، آنساتي، سادتي، أرجو عدم ارتداء الحلي اللماعة أو النظارات الشمسية لأن ذلك قد يغوي القردة بسرقتها، والرجاء التمسك بحقيبة اليد جيدا" لكن ذلك لم يفسد علي الرحلة بل أضاف لها شيء من الإثارة، و قد زادت مستويات الإثارة في رحلتي السفاري وامتطاء الفيل، و قابل ذلك زيادة طردية  في تلون الحياة الماثلة أمامي أكثر وأكثر، إذ سار الفيل في الأدغال، ما بين الأشجار والحشائش، عبر طريق يحفظه عن ظهر قلب، و للحفاظ على هدوء أعصابه يوضع الأكل للفيل على مسافات معينة من الطريق، كما أن المدرب والطاقم المشرف على حديقة الفيل يبدو أنهم محترفون في التعامل مع كلً من الفيل والسواح.


نمر قريب


ثمرة الكاكاو
مزرعة قهوة الليواك
أما رحلة مزارع قهوة الليواك، فكانت أول مكان نزوره في الجزيرة ، و فيها تناولت لأول مرة حبوب ثمرة الككاو من المصدر مباشرة، وتفاجأت بكون حبوب الككاو تشبه حبوب ثمرة القشطة إلى حد ما، وقابلت حيوان الليواك لأول مرة في حياتي، وفي نهاية الرحلة قدموا لنا صينيتان من مختلف أنواع الشاي والقهوة مجانا، وقد اخترت " القهوة الممزوجة بالفانيليا الطازجة" و "القهوة الممزوجة بجوز الهند" و "شاي حشيش الليمون" لأشتريها من المزرعة. 

جبل أغونغ
ومن ضمن عملية التعارف أيضا كان لابد من المرور على بركان أغونغ المقدس بالنسبة للباليين، إذ أن جميع الطرق المؤدية له تعتبر مقدسة، ويشكل هو وبركان ميرو محوري الكون حسب اعتقاد الباليين ، وهو أعلى نقطة في الجزيرة ، ويرتبط بطقوسهم وممارساتهم.

كذلك مررنا بمزارع الأرز و زرنا بعض المعابد، ومعرضا للفنون، والمحيط، والأسواق الشعبية والحرفية، وحضرنا 3 عروض مسرحية، أجملها كان في مسرح السفاري واسمه أغونغ شو ، وأغربها كان عرض في معبد إلوواتو uluwatu ، إذ استمرت فرقة في اصدار اصوات غريبة طوال فترة العرض ، أما الثالث فهو عرض رقصة البارونغ الشهيرة في بالي.


عرض معبد إلوواتو

رقصة البارونغ ( البارونغ هو كائن خرافي يشبه الأسد وهو الحارس للخير وعدو الرانغدا وهي أم الشرور في العالم)

الخطوط الدقيقة

حارس المعبد
تخيل انك تعيش في مجتمع تسيطر عليه فلسفة تهتم بأدق التفاصيل ـ وتؤمن بأن كل شيء في الحياة متصل ببعض، إلى ماله نهاية، كشكل الدائرة تماما، وأن الخير والشر وجهان لعملة واحدة، لا يمكن أن يقضي أحدهما على الأخر، ومهمة الانسان تتلخص بايجاد التوازن الطبيعي بينهما، وليس القضاء على الشر، لأن القضاء عليه يعني أيضا القضاء على الخير، وفي حال فشل الانسان  في أن يعيش حياة متوازنة مع الطبيعة قد تنتهي روحه في جسد أقل قيمة من جسده الحالي، كحشرة وحيدة ، أو سمكة عليلة مثلا! وبغض النظر عن مدى صواب هذا الأمر من عدمه، ألا يبدو ذلك "سحريا" نوعا ما؟! كتربة خصبة للروايات والأساطير؟!
 
الآن لنلاحظ ترجمة الإيمان في واقع الحياة في الجزيرة، وتحديدا في قرية أوبد - ubud- حيث لكل بيت معبد ملحق به، مليء بالتماثيل والقرابين، ومبني حسب التعاليم الهندوسية التي تقضي باستخدام مقاسات صاحب البيت لهندسة البيت!  وأمام كل معبد عامود عالي الارتفاع، ينحني حتى يصل لمستوى طول الانسان تقريبا، ويوضع في نهاية الانحناء صندوق يحتوي على قرابين مختلفة، وفي داخل كل معبد هنالك قسم يحتفظون فيه برماد أقاربهم الموتى، وقسم لتمثال يرمز للإله الذي يختاره صاحب المنزل، فالديانة الهندوسية تعد أقدم الديانات التي لاتزال تمارس حاليا، وهي تشبه إلى حد كبير الديانات القديمة، التي سادت بلاد الرافدين، ومصر الفرعونية، واليونان، فهنالك إله للحظ، وآخر للحب والجمال ...إلخ وكل منهم له شكل مميز، بعضهم شرير، وبعضهم طيب، وبعضهم لديه أجزاء من أجسام حيوانات، لكن هنالك إله واحد خالق، بالنسبة لهم واسمه براهما ، ويشكل هو مع فيشنو - الاله المحافظ والحامي و شيفا- إله الدمار ، ثلاثي الإلهة العظام.


في معبد tirta empul للمياة المقدسة 
ويستخدم الباليين "الترميز" في طقوسهم الدينية وعباداتهم، فيمثلون الآله على أشكال تماثيل ولوحات، ويستخدمون الزهور في القرابين والصلوات، فمن خلال التجول في الأسوقة المحلية لاحظت العديد منهم يضعون زهرة صغيرة صفراء اللون بالمقلوب خلف آذانهم، وتبين لي لاحقا بأنهم يفعلون ذلك لتكريم الرأس بعد اتمام صلاتهم، وأن الرأس مقدس بالنسبة لهم لذلك لا يمس رأس الطفل ولا الطاعن بالسن لكونهما رؤوس أكثر تقديسا من البقية لقربها من "البداية والنهاية" من الناحية الزمنية. ولدى الباليين  طقس ديني مهم يؤدى كل 100 سنة لطرد الأرواح الشريرة من بالي اسمه اكا داسا eka dasa*، ويبدو أن الكاداسا القادم سيكون في سنة 2027، وهم متمسكون فيه لأن في سنة من السنوات قرر أحد حكام الجزيرة تأجيل الطقس الديني، وكانت النتيجة حسب اعتقادهم بأن البركان قد ثار وراح ضحية ذلك حوالي 2000 شخصا ! 

و في معبد تيرتا إيمبول نجد عددا كبيرا من السكان المحليين والسواح الذين ينتظرون دورهم للسباحة تحت منفذ مياه مقدس، كل حسب حاجته، فمن أراد الحظ يقف أمام المنفذ هذا، ومن أراد الصحة يقف أمام ذاك، وهكذا. والجدير بالذكر أنه لا يسمح لأي شخص بأن يدخل لمعبد في الجزيرة من دون تغطية ساقه، خصوصا المرأة، وهم يوفرون زيا شعبيا للسواح لارتدائه داخل المعبد.


الخلاصة 

هل لأنها تشبه الماضي ببساطته الأخاذه؟ هل لأنها تمتلك طبيعة ساحرة؟ هل هي الفلسفة والمعتقد الغني؟ أهي الألوان أم الأصوات؟ أم الرغبة الدفينة فينا للخلاص من رتابة الحياة؟ هل هو الطاقم السياحي المحترف؟ لا أعلم لماذا البعض يطلق عليها "الجنة على الأرض"، كل ما أعرفه أن بالي تعد من أكثر الوجهات شعبية للسفر، واني شخصيا لن أنسى ذكرياتي عليها ما حييت.





حقول الأرز







* bali sekala & niskala,  Fred B.Eseman,page3