السبت، 21 نوفمبر 2015

تخليص الإبريز في تلخيص باريز







  نعالج أمراضنا وألامنا بالكي، ونبتر أصابعنا السليمة لنستبدلها بأصابع  بلاستيكية ملونة نشير  بها إلى بعضنا مقرونة بابتسامة صفراء أحيانا أو بنظرات البلهاء أحيانا، نراقب ألعاب خشبية في الأفق، ولا نعلم إن كانت حقيقة أم سراب، فتتجمع الدموع في المقل وتتجمد وتغدو غشاوة، ومع مرورالوقت نظن أن هذا هو شكل الحياة، هذه هي الصورة الحقيقية، وتخترق صفوفنا أصوات، خافته، بعضها فصيحة اللسان، عذبة البيان، وبعضها بلغة لا نفهمها، وكالقناديل تبحر بيننا، تلامس من تلامس، وتمضي، ونظل نحن من بعدها أما في حيرة أو برؤية مختلفة .

صوت قنديل من الماضي




من الأصوات القديمة التي حضرتني إزاء تفجيرات باريس كان الجيل الأول من المفكرين السياسيين المسلمين، وتحديدا الشيخ رفاعة رفعت الطهطاوي، كيف لا؟! وهو مؤلف (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)؟ فمن خلال معالجة كتابه نحصل على وجهة نظر تاريخة فيما يخص الإسلام وباريس، ومن جهة أخرى يعد هذا الكتاب من الإرث التاريخي الذي بدأت معه "صدمة الحضاره" ، والانقسام الداخلي في الوعي الإسلامي و العربي تجاه نفسه والآخر، وعليه يمكننا تتبع ذلك الجزء في أنفسنا، ونفهم كيفية تكوينه، وما الذي ظل مزروعا بالأنفس وما الذي اضمحل، ولماذا؟ 

قبل الرحلة لباريس 

ضمن سياسة محمد علي باشا لإحداث نهضة في مصر، بعث إلى شيخ الأزهر حسن العطار ليرشح له اسما للابتعاث لفرنسا ليعمل كإمام وواعظ لدفعة قوامها 34 طالب، وجاء جواب العطار بترشيحه رفاعه الطهطاوي لما كان يتمتع به من علم واجتهاد، وقد أوصى العطار الأخير بأن يدون كل شيء في رحلته هذه غير المسبوقة إلى باريس، وفعلا قام الطهطاوي بذلك، وسطر لنا الحياة الباريسية بعيون المسلم الذي ولد وترعرع في طنطا، وعاصر الدولة العثمانية. 


تقسيم الكتاب

يقسم الطهطاوي كتابه لمقدمة وأربع مقالات، مقسمة بدورها لعدد من الفصول. وفي المقالتين الأولى والثانية : يصف الطهطاوي خروجه من مصر والرحلة التي قام بها إلى أن وصل مدينة مرسيليا حتى وصوله لباريس، ويخصص لباريس المقالة الثالثة ، وأخيرا يخصص المقالة الرابعة للمعارف والعلوم التي أتى من أجل تحصيلها. 

باريس بعيون الطهطاوي ! 


في البداية يوضح الطهطاوي السبب الذي جعله يسافر لهذه البلاد "التي هي بلاد كفر وعناد، وبعيدة عنا كل الابتعاد، وكثيرة المصاريف، لشدة غلو الأسعار فيها غية الاشتداد" ص13  وهو كما أوضحنا لتحصيل العلم ، فيقول أنه في زمن الخلفاء العباسيين كان للفنون والعلوم مكانة مرموقة جعلت من الدولة الإسلامية دولة متمدنة ومرفه وذات تربية عالية، لكن هذا الأمر تبدل، وأهملت العلوم، ومع هذا التبدل خسر الاسلام وضعفت شوكته، بينما ظفرالإفرنج  بالعلم والعزة وحتى العدل ! وهنا تبدأ المقارنة وفهم الذات ومشاكلها من خلال الآخر، أي أن الصحوة لم تكن بسبب ملاحظة ذاتية ،أو تطور فكري، أو انفجار مشكلة داخلية، بل كانت من خلال مرآة الآخر المختلف، وهكذا سهل موضوع تقديم وصفة شافية للواقع الوهن وهي الإجابة عن السؤال الآتي: ما المفقود لدينا والموجود لديهم؟ بالتأكيد ذلك سبب تقدمهم، وتخلفنا! لكن ما يزيد المسألة تعقيدا هو أن الطهطاوي لم يكتف بإختزال الأسباب التي أدت لضعف الدولة الإسلامية بإجابة السؤال الآنف ذكره بل ترك المتلقي يقع في التناقض.


تناقض، ولكن...

 لم يخيب الطهطاوي أمل أستاذه، ودون بالتفاصيل كل ما رآه وعرفه في فرنسا: فيذكر نظافة المدينة، وحب الشعب للنظافة، حتى على مستوى الشخصي، فيذكر الحمامات العامة، وطريقة تريتبها، والبنيان والملبس والأواني المستخدمة للأكل، وطريقة الأكل، ويعرج على لباس المرأة ومكانتها في فرنسا، ويستغرب من كونها لا تتمتع بحريتها فحسب بل أن لها الأفضلية على الرجال، إذ يجلسها قبله، وتتلقى الزوجة التحية قبل زوجها! حتى أنه قال في موضع " أن الرجال عندهم عبيد النساء وتحت أمرهن، سواء كن جملات أم لا" ص87 ويذم بالرجال الفرنسين عدم غيرتهم على نسائهم وفي نفس الوقت يبين بأنه لا يرى عيبا في مراقصة النساء الرجال، وأن الفرنسيات اللواتي يتمتعن بالأخلاق لا خوف عليهن. 

 ولا يغفل الطهطاوي عن ذكر طبيعة الأرض والمناخ، وطبيعة الحياة التي لا تهدأ ليلا ولا نهارا، ويدون عن الأطفال وتعليمهم، ويتعمق حتى يصل لطباع الفرنسيين فيذكر أنهم يحبون التغيير والسفر، ومحبة الغرباء والصدق، و المروءة الإنسانية، والسرف...إلخ أي أنه يذكر مزاياهم وعيوبهم حسب وجهة نظره لكن بشكل عام يذكر بأن العديد من خصالهم تتشابه مع العرب. أخير ينهي بمختلف العلوم والآداب واللغة، فيذكر مهنة الطب والأطباء - يوردهم باسم حكيم- ويبين طريقة تعلمه للفرنسية ، وكيفية تقسيم العلوم، وما حصله منها، ويذكر أنه تمكن من ترجمة عدد من الكتب في فترة بقائه في فرنسا.

وأما الجانب الأهم في معالجة الطهطاوي، أو الجانب العملي والذي من أجله صنف كمفر سياسي هو معالجته للحياة السياسة الفرنسية، فالطهطاوي يتناول التنظيم السياسي للدولة الفرنسية، والقوانين التي تسير الحياة فيها تحت عنوان - الشرطة-، ويذكر المواد التي تتناول حقوق المواطنين، مثل المادة الأولى : مساواتهم أمام القانون -يستخدم الطهطاوي لفظ الشريعة- و المادة الخامسة: كل الأديان محترمة، ولكل إنسان حق التعبد وفق دينه!  ويعلق : "إذا تأملت رأيت أغلب مافي هذه الشرطة نفيساً" ص 113  وهنا يمكننا رصد التناقض، فالطهطاوي كإمام وواعظ يعلم بأنه وبحسب الشريعة فإن غير المسلم يعتبر كافر وعليه دفع الجزية إن هو أراد العيش في بلاد المسلمين، كما أن ذلك ينطبق على أهل الكتاب فقط، أي أنه لو بوذي قدم لبلاد المسلمين لا يحق له مزاولة عبادته الخاصة بينما في فرنسا ووفق القانون يجوز له ذلك! لكن الطهطاوي لا يذكر هذا الأمر ولا حتى يعرج عليه، ويكتفي بمدح الشرطة الفرنسية! ومن ناحية أخرى نراه يمتدح الإسلام لكونه اسلاما، اذ يحرص على التأكيد بأن أفضل البلدان- بل وأفضل القارات هي المسلمة فقط لكونها مسلمة، بينما يمتدح فرنسا وعلمها ونظافتها وقوانينها -التي هي بطبيعة الحال مدنية- وصولا للقيم والأخلاق والعدالة ـ يورد الفصل العاشر من المقالة الثالثة لفعل الخير في مدينة باريس - مع التأكيد على أنها كافرة ! وهكذا نلاحظ أن العديد من الجمل في الكتاب، كان يفرغ بعضها البعض من المعنى، ولعل بيت الشعر الذي كتبه أبلغ في أن يلخص النقطة: 

" لئن طلقت باريسا ثلاثا ****** فما هذا لغير وصال مصر
فكل منهما عندي عروس******ولكن مصر ليست ببنت كفر"ص70  


لكن وبالرغم من التناقض الذي أوقعنا فيه الطهطاوي، فان اجتهاده في تحصيل العلم، وصدقه مع ذاته في ما كتبه فتح المجال لمن بعده، وحرك المياة الراكدة، فمنهم من وصفه بأنه رائد النهضة لما ترجم ونقل من أفكار، ومنهم من انتقده "لافتتانه بفرنسا"، وإلى اليوم نلمس أشكال من التنافر والتجاذب، ودعوات لتتبع مسيرة الغرب مقابل دعوات للرجوع للأصول الإسلامية، وغالبا يكون الآخر حاضرا في إدراك الذات، إلا أنه وبالمقارنة مع ظروف عصره يظل ما قام به الطهطاوي مبادرة، وقد ساهم في دفع عجلة التقدم الثقافي والحضاري في مصر، إلى أن زالت دولة محمد علي باشا، وعرقلت الجهود وتم نفي الطهطاوي للسودان، وبالرغم من أنه تمكن من العودة لاحقا لكن النهضة التي حققتها مصر في تلك الحقبة لم تعد، وهو من عيوب النظام الفردي في الحكم، فالشخص أقوى من المؤسسة، والشعب أسير التقلبات التي تحدث في القيادة. أخيرا أذكر بأن الطهطاوي لم يغفل عن ذكر الثورة الفرنسية وعملية اسقاط العائلة الحاكمة للمرة الثانية في فرنسا، وبين رأيه في الأسباب، وحللها، وهكذا غدا في التاريخ قنديلا وإن ظلت الدوائر والأسئلة من بعده مسترسلة على جانبي طريق عالمنا العربي، فلإثارة الأسئلة مكانة أعظم من الإجابات. 




المصادر: 

-كتاب تلخيص الإبريز في تلخيص باريز- رفاعة رفعت الطهطاوي

http://www.marefa.org/index.php/%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%B9%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%87%D8%B7%D8%A7%D9%88%D9%8A

http://elbadil.com/2014/10/15/%D8%B1%D9%81%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%87%D8%B7%D8%A7%D9%88%D9%8A-%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%B6%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A/


ليست هناك تعليقات: