الكتاب من اصدارات دار الطليعة - بيروت ، و يقع ضمن 128 صفحة ، وهو عبارة عن ثمرة عمل مشترك لكل من الباحثين هالة الورتاني و عبد الباسط قمودي، والهدف منه هو تقديم فهم أعمق للحقبة التاريخة المعروفة بعصور الإنحطاط من خلال التركيز على البنى السياسة والإقتصادية والإجتماعية وتأثيرها على الإنتاج الفكري الاسلامي، في الفصل الأول. وفي الفصل الثاني يتخذ من مصر وشمال أفريقيا نموذجا للتعرف على شكل المجتع الإسلامي في عصور الإنحطاط.
الفصل الأول : الفكر الإسلامي خلال عصور الإنحطاط: الإطر الإجتماعية والتجليات:
يتحدث عن أهمية التعرض للحقبة التاريخية المسماه بعصور الإنحطاط بسبب كون أغلب الأدبيات التي تعرضت لها تناولتها بشيء من الإختزال والبعد عن الواقع، و يعود السبب في ذلك لما أسماه "المتخيل التاريخي الإسلامي" الذي يستخدم منظورا سياسيا بحتا في معالجة التاريخ، لذلك تجد في هذه المؤلفات بأن التاريخ الإسلامي يبدو وكأنه خط بياني منحدر، و في الجانب المرتفع من الخط نجد صورة لمجتمع اسلامي مثالي متوهج إشعاعا ونورا، أما في الجانب المنحدر فنجد المجتمع الإسلامي المظلم و الجامد فقط لا غير! لذلك برزت الحاجة لدراسة تستخدم مقترب مغاير للتعامل مع التاريخ الإسلامي، وخصوصا عصور الإنحطاط كونها النقطة الأهم والأقدر على عكس مكامن الخلل في المسيرة الإسلامية.
ولتحقيق درجة انضباط عالية في البحث يتم تحديد عنصر "الإضافة للإنتاج الفكري" كمقياس يحدد بداية عصور الإنحطاط،ويتناول كل من العوامل السياسية والإقتصادية والإجتماعية كون مجموعهم يساوي البيئة التي تحتضن العقل، فالعقل ببساطة لا يعمل في فراغ، بل يتأثر ويؤثر بالبيئة التي ينوجد بها، ويطلق عليها "البنى الاجتماعية للمعرفة" ، ويتعرض الفصل لهذه البنى الثلاث على النحو التالي:
الإطار السياسي: منذ القرن الخامس نجد بأن السمة الغالبة للعالم الإسلامي هي " التفتت والتجزئة السياسية" فلقد كان هنالك أكثر من كيان إسلامي واحد ، مما سهل عملية غزو المغول لبغداد واسقاطها على يد هولاكو في القرن السابع الهجري، ويرى البعض أن هذا الحدث شكل الإنطلاقة الحقيقية لعصور الإنحطاط، لكن وجهة النظر التي يقدمها الفصل تتعارض مع هذا الرأي لأنه حتى وبعد سقوط بغداد فإن الإسلام استمر في انشاء مراكز سياسية جديدة ، إذا ليست المسألة مرتبطة بالكيان السياسي نفسه بل " بقضية الاستمرارية والإنقطاع في التاريخ الإسلامي" والتي منعت خط الثقافة من أن يحرز عمقا في المجتمع، خصوصا بعد دخول شعوب جديدة ذات ثقافات جديدة، ولم يكن هنالك تواصل بين هذه الثقافات وكل منها كان يبدأ من الصفر دون الإطلاع على إنتاج الآخر، فلم يستفد مفكروا فاس من مفكري لاهور على سبيل المثال، وهنا كانت الإشكالية الحقيقية والتي أذعنت ببداية عصور الإنحطاط حسب رأي الباحث.
الإطار الإقتصادي: إن العلاقة التي تربط كلا من الثقافة والإقتصاد هي علاقة طبيعية، ولا يحتاج الإنسان بأن يكون ماركسيا لكي يفهم هذه العلافة - على حد تعبير الباحث- ففي المجتمعات الغنية عادة يوجد انتاج فكري خصب ومبدع، بينما يسود التقليد والجمود الفكري في أوساط المجتمعات التي تعاني من ناحية نشاطها الإقتصادي. و نرى بأن النظام الإقتصادي الإسلامي واجه العديد من التحديات لعل أهمها الفساد الإداري في أزمنة معينة،و هو الشيء الذي أدى لمنعها من استغلال موقعها المميز في التجارة الدولية! هذا بالإضافة إلى ظهور المنافسة الخارجية القوية الممثلة بحركة التقدم العلمي الغربي والكشوفات الجغرافية الجديدة التي غيرت من طبيعة النشاط التجاري العالمي،وجعلت الأوضاع الإقتصادية الإسلامية في موقف حرج، والذي أثر بدوره على الانتاج الفكري.
الإطار الإجتماعي: في هذا الإطار تبرز نقطتان وهما : الإنقسامات المذهبية و عسكرة المجتمع الإسلامي.المجتع الإسلامي أصبح منقسم على ذاته ما بين سنة وشيعة، وذلك أثر سلبا على قوة فالتماسك والترابط المجتمعي، بينما بدأت سيطرة الجند تتضح مع الخلافة العباسية، و تم التركيز على التصدي للحملات الصليبية و رفع راية الجهاد ، مما أدخل المجتمع في شكل من أشكال الدولة الصارمة، وأجهض عملية التنمية الإقتصادية، وقضى على أمكانية انتاج مدن حضارية متقدمة.
وعلى أثر هذا التناول يتجه الفصل لتحليل عصور الإنحطاط من منظور "الأطر الإجتماعية للمعرفة" التي كانت سائدة آنذلك، وقبل أن يدخل في تفصيل أشكال العلوم الإسلامية التي كانت متناولة آنذلك يتم التطرق لمفهوم محوري كان له بالغ الأثر في اضفاء صبغة الجمود والخوف من طرح الإسئلة والإبداع، ألا وهو مفهوم (البدعة) فما لهذا المفهوم من دلالات روحية مدعمة بواسطة الأحاديث النبوية جعلت منه حصنا منيعا، فلا أحد يجرأ على التفكير في أحد مجالات العلوم، لأن الأولين والسلف الصالح اجتهدوا وأنتجوا من المعرفة ما يجب الحفاظ عليها والسير في إتجاهها إلى ما شاء الله! ولقد رسخ هذا المفهوم كل من: الغزالي، العسقلاني، وغيرهم. وبعد أن يستعرض الفصل نشاطات وانتاجات العقل الإسلامي في تلك الفترة من: التفسير، وعلم الكلام، والفلسفة، والفقه، والتصوف، والعلوم الطبيعية، وأخيرا الفنون الإسلامية، يصل إلى نتيجة مفادها غلبة النقل على العقل في جميع تلك المجالات الآنف ذكرها، واحتكار حق البحث والتنقيب واصدار المعرفة لقلة قليلة - "نخبة تاريخية"- يتوقف بعدها العطاء وعلى الكل أن يلتزم حدوده!"فالعلم"في عصور الإنحطاط كان يقتصر على أن تحقظ القرآن دون أن تفكر في معانيه،و أن تمتثل لأحد المذاهب الأربعة! ولا تجديد لما أنتجه الأولون الذي يكاد أن يصورون على أنهم معصومون لذلك فقد أطفأت شعلة العقل ، وساهمت الاطر الإجتماعية للمعرفة في دخوله بغيبوبة.
الفصل الثاني: الممارسة الدينية في عصور الانحطاط في مصر وشمال أفريقيا نموذجا:
يبني هذا الفصل استنتاجاته على ملاحظات "شهود عيان" وهم (الرحالة) الذين كتبوا عن رؤيتهم ومشاهداتهم الشخصية، إذ اعتمد على المقاربة"الوصفية التحليلية" لجملة أدبيات الرحالة الذين عاصروا المجتمع الإسلامي في تلك الفترة، وتوصل لنتيجة مفادها بأن الإسلام كممارسة في عصور الإنحطاط كان بعيدا عن الإسلام العالم، بينما ظل "الاسلام الرسمي" واقفا كصورة فقط! والدليل أن هنالك ممارسات كانت ترفع باسم الإسلام لكنها في الواقع أقرب للخرافات أو ممارسات شعبية، فعلى سبيل المثال كان يمكن لأي طالب ينهي "دراسته" أن يطلب "الشهادة العلمية" لأخيه أو ابنه وكان يتم منحه! كما سيطرت على عقولهم في تلك الفترة فكرة "الكرامات" ، وانتشر غطاء الوجه بالنسبة للنساء حسب ما يذكره أدبيات الرحالة في هذه الفترة.
وتظل النقطة المضيئة الوحيدة التي ذكرها الفصل تخص الفن إذ كانت العمارة والفنون آخر أشكال الإنتاج الفكري التي قاومت عصور الإنحطاط ، ومثال على ذلك يتناول ما ذكره الرحالة العبدري عن لوحة رسمها رسامان مسلمان، وهي عبارة عن راقصة في صورة جنيتين متقابلتين، وكان الإبداع في اللوحة أن الرسامان استخدما تقنيات فنية توهم الناظر للوحة بأن أحد الجنيتين تخرج من الحائط والأخرى غائرة به مما يوحي بالرقص، ويشير إلى أن العقل الإسلامي "كان" لا يهاب الإبداع! ولاتزال المحاولات جارية لإنعاشه من جديد, فهل سيتمكن من إعادة إنتاج نفسه في ظل المعطيات الجديدة ؟ أم سيظل منطفئا؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق