الأحد، 3 يناير 2016

الجزء الثالث والأخير من الكوميديا الإلهية - الفردوس


وهج الفكر المرشد للإله يملأ قلبي حبا، نغمات الإنشاد وحبيبتي متعاظمة الجمال نسبح معا إلى الأعلى، نتجاوز سبعا، فإثنان لا يقوى فان على وصفهما، اجتزت الاختبارات، قابلت من يحمل مكانة عظيمة في إيماني، وانتهيت بالنجوم كعهدي، وعند عودتي للواقع غدوت بورق الغار مكلالا، وأغرقتني أمي فلورينسا التي نبذتني يوما بالحب والتقدير والاحترام ، وكلي أمل إني في هذه اللحظة وحبيبتي متعاظمة الجمال، نسبح معا إلى الأعلى... 

الكوميديا الإلهية كاملة : رحلة دانتي عبر الغابة والجحيم في الأسفل، ثم تنقلب الأرض ليصل حتى المطهر، فالفردوس الأرضي والأجرام وأخيرا الأمبيريوس 

الفردوس الأرضي : لقاء بياتريشي المنتظر!

كما أن أوردت في البوست السابق، فدانتي وفيرجل والشاعر ستاتيوس وصلا لضفة نهر، وهناك قابل فتاة تقطف الورود، فيدور بينه وبينها حوار- لا يذكر دانتي هويتها لكن الدارسين يعتقدون بأنه يفصح عنه لاحقا- وكل ما يذكره عنها في هذه المرحلة بأنها تذكره ببروسيبينا   التي اختطفها بلوتو بينما كانت تقتطف الورد. ويتبين لدانتي أنه أمام نهري الليثي و إينوي، وبينما الأول يستعيره دانتي من المثولوجيا الإغريقية كنهر لمسح الخطايا، يخترع نهر الإنوى ليهب اللإنسان ذاكرته الحسنة. 

وفي الجهة المقابلة من النهر، يصف دانتي موكبا عظيما، محاطا بالأنوار، وتملؤه التفاصيل، يتقدمه أربعة حيوانات اسطورية مجنحة مكللة بالورق الأخضر، وكان الذي يجر العربة من بينهم هو الجريفون بعنقه- رأسه نسر وجسده أسد ويرمز للمسيح- وعند العجلة اليمنى من الموكب كان هنالك 3 سيدات يرقصن، يرمزن للفضائل الدينية الثلاث، الأولى المحبة وترتدي اللون الأحمر، فالرجاء ترتدي اللون الأخضر، وأخيرا الإيمان وترتدي اللون الأبيض. أما عند العجلة اليسرى من الموكب فكذلك كان هنالك 4 سيدات يرقصن، ويرمزن للفضائل الأخلاقية الأربعة والتي تم الإشارة لها في المطهر ، وبعد الموكب كان هنالك  سبعة رجال منهم القديس لوقا وهيبوقراطيس ، وهم يمسكون بوردة حمراء وحواجبهم تشتعل نارا.

موكب بياتريشي

ويستمر دانتي بوصف الابهار بصور خيالية ممزوجة بالغناء والورود المتناثرة بالهواء، إلى أن تظهر بياتريشي من العربة، مرتدية غصن الزيتون الأخضر، ونقابا أبيض، من تحته ثوبا أحمر - رمز الفضائل الدينية الثلاث التي سبق الاشارة لها- حينها التفت دانتي لفيرجل ليقول له بأن كل قطرة دم في جسده ترتجف، لكنه فوجئ بأن فيرجل قد رحل!

ولأول مرة يورد دانتي اسمه في الكوميديا الإلهية على لسان أي من الشخصيات، وطبعا كان ذلك على لسان حبيبته بياتريشي في أول حديث لهما، وقد لامت بياتريشي دانتي على تجاهله ندائها عندما كان على سطح الأرض، وحثته على الإعتراف بذنبه حتى تكون السماء رحيمة به، فخر راكعا وأغمى عليه، وعندما صحى رآى وجه الفتاة التي كانت تقطف الورد في البداية، فراحت تغمسه في النهر لينسى خطيئته، وإذ بالحوريات الأربعة - اللاتي يرمزن للفضائل الأخلاقية والتي سبق ذكرها- يرقصن حوله، وأخيرا يتجه لبياتريشي ليركب العربة معها، وفي تحليقهما يشاهد دانتي على الفردوس الأرضي الشجرة التي أكل منها سيدنا آدم، وعملاق ومومس يستخدم الرمزية للدلالة على فساد السلطة الباباوية- وبعدها ينطلق مع حبيبته نحو النجوم - إلى هنا ينتهي قسم المطهر-.

لقاء دانتي الأول ببياتريشي


رحلة دانتي عبر السماوات السبعة 


يتجاوزان مقام البرق، ويصلان للسماء الأولي: سماء القمر، وسكانها هم الأرواح التي لم تف بنذورها، وكعادة دانتي يورد رسائله في حوارات أثناء الرحلة، فيدور حديث بين بياتريشي ودانتي عن الله ، وعن القمر والبقع الداكنة التي به، ويذكر دانتي القصة الشعبية التي كانت متداولة لتفسير البقع الداكنة وهي أن قابيل كان يسكن القمر، وأنه حكم عليه بأن يحمل كومة من الحطب إلى الأبد، إلا أن بياتريشي تصحح ذلك باستعانتها بنظرية ابن رشد للأجسام المضيئة. ومن الأرواح الطوباوية التي يلتقي دانتي بها في هذا المقام الراهبة بيكاردا.

أما السماء الثانية فهي سماء كوكب عطارد ، "مزدان بأرواح طيبة نشطت من أجل أن يتبعها الشرف والمجد" ، ومن سكانه روميو دو فيلنوف، وتجدر الإشارة في هذا المقام بأن الفردوس الذي يتحدث عنه دانتي مستمد من الدين المسيحي لذا نجد بأن دانتي يتناول في هذا الجزء العديد من المسائل العقيدية في الديانة المسيحية، مثل حكم الثأر لمقتل المسيح، وتقوم بياتريشي باستخدام مبدأ الحلول وفساد العناصر لمعالجة هذه المسألة لدانتي.

ينتقلان بعدها للسماء الثالثة وهي سماء كوكب الزهرة، وبما أن الكوكب مرتبط بفينوس في المثولوجيا الإغريقية - إلة الحب والجمال- نجد بأن أرواح هذه السماء هي الخاضعه للحب، ويذكر بأنه لاحظ بأن بياتريشي ازدادت جمالا عند وصولهما هذه السماء، ومن الأرواح التي التقاها هنا : الشاعر فلوكيه المرسيلي.

 في السماء التالية يلتقي دانتي بتوماس الإكويني  الذي يريه الحكماء الإحدى عشر للتاج الأول، والتاج الثاني، وهم أرواح أهل اللاهوت والفلاسفة  الذين يسكنون السماء الرابعة : سماء الشمس، وأحب أن أورد ملاحظة هنا وهي أن دانتي دائما يربط ما بين الخطيئة أو الحسنة، والمكانة التي تحظى بها، فكما كان العذاب يتعاظم ويحمل علاقة منطقية بشكل ما مع الخطيئة في كل من الجحيم والمطهر، كذلك هنا نلاحظ بأن هنالك تناغم وانسجام ما بين الأرواح والسكان الذين يسكنون السماء، فالشمس نور، وكذلك الفلاسفة واللاهوتيين بالنسبة لدانتي، وكوكب الزهرة برمز للحب، لذا كان سكانه الخاضعين للحب ...إلخ. ومثل بقية السماوات تدور أحاديث لاهوتية ذات صلة بالديانة المسيحية في سماء الشمس. 

يكمل دانتي وبياتريشي التي تزداد جمالا كلما صعدا إلى السماء الخامسة، ألا وهي سماء المريخ، والأرواح التي تسكن هذا المكان هم: الأرواح التي حاربت من أجل إيمانها، وهنا يلتقي دانتي بجده الأكبر، ويفخر بنسبه، ويلتقي أيضا بأبطال اليهود والمسيحية وأبطال الملاحم.

ويصلان إلى السماء السادسة: سماء المشتري، ويورد دانتي في هذا المقام صورة خيالية بديعة، وهي قيام مخلوقات مباركة المضيئة بتشكيل الحرف D ثم الحرف I  فالحرف L... وهو بذلك يقصد عبارة diligite iustitiam أي أحبوا العدل يا أيها الذين تسكنون الأرض- من سفر الحكمة في العهد القديم- أي أن هذه السماء خصصت للعادلين والأتقياء، وتتحول لاحقا لزهرة زمبق، ثم إلى نسر يحاور دانتي.


النسر الذي تشكل بعد عبارة العدل في السماء السادسة


أخيرا يصل دانتي لسماء الكوكب السابع: كوكب زحل، وفيه التأمليون، وهنا تكف بياتريشي عن الابتسام، ولا تسمع أناشيد وموسيقى مثل بقية السماوات التي مر عليها دانتي، وتبين له بياتريشي السبب في أن لا حواس فانية تستطيع أن تستشعر ذلك الألق المكنون في هذه السماء، ويرى دانتي سلما ذهبيا يرقى إلى الأعلى، فيرتقيه ويمر ببرج الجوزاء الذي هو نفسه من مواليده إلى السماء الثامنة ويلقي نظرة أخيرة إلى السماوات السبع التي تجاوزها.

السماء الثامنه والسماء التاسعة 


"وكما تقف تريفيا أسفل القمر الساطع، ضاحكة للحوريات الأزليات، المزدهرات تحت خلجان السماء*** رأيت فوق آلاف المشاعل، شمسا تتغمدها كلها، كما تضيئ شمسنا أنجم العلا" (ص935-934 ،الكوميديا الإلهية) هكذا وصف دانتي المنظر أمامه، وهي سماء الأنجم الثابته، وهنا يتعاظم كل من جمال بياتريشي والمشهد بشكل عام، ويورد دانتي صورا خيالية تكاد أن تتفوق على أي لوحة يمكن لرسام أن يبدعها، وهنا يرى مريم العذراء تصعد وراء ابنها يسوع مكللة بهالة الملاك، وجبريل.

أيضا في هذا المقام يتعرض دانتي لسلسلة من الاختبارات على أيدي القديسين المسحيين، وأولهم هو اختبار الإيمان على يد القديس بطرس، فلما سأله عن ماهية الإيمان يجاوب دانتي "الإيمان جوهر كل مأمول، وبرهان ما لا يرى; كذلم أرى أنا كنهه" - كنهه مفردة من المعجم الاسكولائي للدلالة على الماهية*- و يمتحنه القديس يعقوب دانتي في الرجاء، والقديس يوحنا في المحبة  والتي قال فيها دانتي "فالخير بما هو خير، ما إن نسمعه حتى يشتعل العشق فينا، لاسيما وأنه ينطوي في ذاته على طيبة كبيرة" (ص962 ، الكوميديا) أي أن دانتي يعتقد بأن نشر المحبة يتناسب طرديا مع كمية الخير في الانسان، وهو أمر يمكن لأي إنسان الإعتقاد به بغض النظر عن ديانته بوجهة نظري. وفي نهاية الاختبارات تلتف أرواح الطوباويون حول دانتي لتغني "قدوس قدوس قدوس" ويرفع دانتي بصره ليرى سيدنا آدم عليه السلام. ومن الجدير بالذكر أن دانتي يصرح في هذه السماء بأنه واثق ومتأكد من نيله إكليل الشعر عند عودته للأرض في معمدانية سان جوفاني تحديدا. 

أما السماء التاسعة فهي بطبيعة الحال الأكثر إبهارا، والأجمل، وأذكر بأن الصعود للأعلى في السموات السابقة جميعا كان عن طريق البرج الذي قبله - مثلا برج الجوزاء صعد من خلاله للسماء الثامنة- إلا هذه السماء، فيذكر دانتي بأن طريقة وصوله إلى هنا لا يستطيع إدراكها عقل بشري، وهو كشخص متدين يستخدم هذا المنطق كثيرل في هذا القسم من كوميدياه بشكل عام، فعن طريقة صعوده يقول دانتي: " فكري العاشق الذي ما برح يحاور سيدتي راح يشتعل أكثر من أي وقت مضى رغبة في التحديق بها عن كثب، ولو أن الفن أو الطبيعة صنعا أفخاخا لاجتذاب الأرواح وأسر الأعين في الجسد البشري أو عبر التصاوير، لبدا كل سلطانهما هنا بالقياس إلى الحسن الإلهي الذي كان يبهرني عندما ألتفت إلى عينيها الضاحكتين. فانتزعتني القدرة التي ألقتها نظرتها في من عش ليدا الجميل ، وقذفتني إلى السماء التي هي أسرع الجميع" (974-975، الكوميديا) ويقصد ب "أسرع الجميع" المحرك الأول، وهي سماء الامبيريوس أي الفكر الإلهي الذي يشتعل حبا، وفيها 9 دوائر نارية من الملائكة، وفي المنتصف نقطة نورانية، والدوائر تتحرك ببطئ أو سرعة حسب ارتباطها بالمحور، ويصف دانتي جمال المكان ونهر النور، ويدور حديث عن الملائكة، ثم تتشكل أمامه الوردة السماوية البيضاء، ويصف عرش مهيئ لهنري السابع في الوردة - كان دانتي يعلق علي الملك هنري آمالا لإصلاح فلورنسا لذلك أورد هذا العرش- ، أخيرا ترتقي بياتريشي للتتخذ مكانها في الوردة البيضاء، ويحل محلها القديس برنار، ويتناول دانتي جملة من المواضيع العقيدية في الديانة المسيحية منها سر الثالوث، وينهي ملحمته بجملة "الحب الذي يحرك الشمس وسائر النجوم" (1035، الكوميديا). 


المحرك الأول في السماء التاسعة : الامبيريوس

الوردة السماوية 

تعقيب 


بغض النظر عن الاعتقاد الديني بمفهومة الضيق، إن ما ورد في نص الكوميديا الإلهية لهو بالفعل رحلة إنسانية سحرية متصلة بالأعماق وبما هو كامن وحقيقي فينا، ففي نهاية اليوم دانتي رجل/إنسان مثلنا تماما، مر بتجربة حب انتهت قبل أن تبدأ، ونبذ من قبل وطنه، فصهر كيانه، ورفض أن يموت نكرة، وأبدع بالورقة والقلم، ما تهافت الريش والعقول على تذوقه، اتجه إلى الله كفكره وكملاذ لروحه، وانتهى به الأمر ليغني البشرية ويصرخ أنغاما موسيقية في وجوه المشككين بقوة وجبروت المحبة.

رحلة دانتي - الكوميديا الإلهية
المصادر : الكوميديا الإلهية، ترجمة كاظم جهاد.
تلخيص الأجزاء الأولى: 
الجحيم:http://shaikha25.blogspot.com/2015/10/blog-post.html
المطهر:http://shaikha25.blogspot.com/2015/11/blog-post.html 

ليست هناك تعليقات: